أطياف

كتابات خنثوية: لا اسم له

لأنِّي ما أزالُ أحلم، أنا في حلمٍ تتسلَّلُ إليه الكوابيس – أحدِّثُ نفسي – ما زلتُ أحلمُ بنهاراتٍ طيِّبة وبأمسياتٍ أرانيها رجالٌ ونساء في زمانٍ غابر، وقلْ إنِّي واهمٌ هائمٌ أطاردُ أطيافاً، أحيا في قصيدة، أجوبُ الأصقاعَ أغنِّي للعدالةِ الكاسيةِ مدينةً بأسرها.

أنا هنا في الشَّام أرفعُ يدي لتحيَّة الأسوارِ والشُّرفات وأقولُ إنِّي غداً سأرحلُ إلى جهةٍ أخرى لعلِّي أشتاقُ أكثر، ودمي يسابقُ روحي إلى الشَّوارع: مرحباً أيَّتها الحجارةُ القديمة! أأنتِ الآن تتكلَّمين وسطَ هذا الصَّمتِ الصَّاخب، ولعلَّكِ تنوحينَ بصلابةِ الزَّمان وتحفظينَ الأحبَّاءَ بأسمائهم اسماً اسما.

أُسدلُ شَعْري للرِّيحِ أخرجُ من رُكني تتآكلني العيونُ بتحديقةٍ مسماريَّة، وحينما نلتقي في نظرةٍ عجلى يخوضُ قلقُ الشَّعبِ خلفَ حُجُبِ جسدي وأستارِه، وتسألني القلوب؟

من أنتَ أيُّها العجيب؟ بل قل: من أنتِ يا روحاً عزيزة؟

أنا ليلٌ قوَّام على نجمةٍ مضيئة، أنا الشَّاهدُ على الصَّرخات، أحملُ أرضَكُم إليكم: هاكم إيَّاها كما عرفَتْكُم وتشتهونها، بهيةً مجيدةً بالوجد فيَّاضة.

نزعْتُ عن نفسي أسبابَ العداوةِ ماضيها وحاضرها، وعرفتُ كيف لا يتعلَّقُ المرءُ بشيءٍ ويكون سعيداً، وإذا كانتْ صيحتي الصَّادحة: لا. كريمة الجوهر أرجوانيَّة، ألَّا أكونَ ضحيَّةَ العصر، فإنَّ ضحكي عالٍ ومرنان بالحبور: نعم. مجيدة الأصل ورديَّة، أن أكونَ أضحيةَ القيامة.

فلتكنْ رسالتي مغلغلةً ولتخرجْ أعلى حدودِ الضِّيقِ ريَّانةً بصبابةِ سماءِ هذي البلادِ المنكوبة، إنْ كنْتَ قد أردَّتَ لها حريقاً، فها هي ذي رمادٌ وغبار، وإنْ أردَّتها فردوساً فها هي ذي عروسٌ سجينةُ حصونٍ ودونها حرَّاسٌ من كلِّ غزوٍ ونهب.

أيَّتها الحبيبةُ أسمعُ صلاةَ أوجاعك، مثلُكِ أنا، امرأةٌ مهزومة، مسبيَّةٌ أؤلِّفُ المراثي وأبكي على الأطلال كي لا ينفجرَ قلبي، وماذا عسايَ أفعلُ أنا المجلَّلةُ بازدراءِ أكثرِ القلوبِ مدعاةً للازدراء، ليسِ لي سوى رحمِ أرضكِ ملجأ، وما عندي إلَّا غنائي الذوَّاب في عتمتك، أبعَثُهُ همساً وجهراً وباطناً، ويعود إليَّ مجرَّحاً مبحوحاً مُغمَّساً بدمٍ شريفٍ يدعوني لأُعيدَ اكتشافَ حروف الرَّحمة.

أخذْتَني في غفلةٍ منِّي أيُّها الزَّمان، وأنا لك، علِّمْني كيف أجعلُ للسَّكينةِ صوتاً وللعزاءِ يداً وللخلاصِ سرَّاً مفتاحُه الرَّأفة.

سأمضي قُدُماً إليكَ أيُّها الحبُّ أُوشمُ القبلَ فوق النُّدوب، سأهاجر إليكَ وراء الوقت ووراء نفسي مسافراً في تِيهِ وحدتي، فقلبي مفتوحٌ على سرورٍ خفيٍّ أتقرَّبُ به منكَ إليك.

وعورةُ الطَّريق تُدمي خطوتي، أنزفُ وأظمأُ وأسقطُ مغشيَّاً على وجهي، ووجهكَ الغائبُ دليلي وقِبلَتي، سأكونُ في آخرِ العصرِ على بابك.

كلُّ عبورٍ في شارع مواجهة، كلُّ فضاءٍ ميدانُ معركة، لا تعلمُ في كلِّ مرَّةٍ ماذا ستفعل، أتتجنَّبُ التحديقةَ النَّصليَّة الاختراقيَّة للعيونِ المفتوحةِ المدهوشة، أم تدخلُ معها في انغماسٍ ما ورائيٍّ بما يقبعُ خلف حجابِ الجسد؟

وعلى الرَّغم من النَّدوبِ الغائرة الَّتي تتركُها معركةُ الحياة اليوميَّة، إلَّا أنَّني ما زلتُ أرى إلى الفضاءِ المفتوحِ للشَّرق كما أراه في خيالي، أجد لذاتي موقعاً مضيئاً في ثقافةٍ كبرى أنتمي إليها وأعرفُ يقيناً أنَّها وسعت منذ عصورٍ مختلف الهويَّات والذَّوات وأنتجَتْ كوكباً من السِّحر ما زالَ يزيِّنُ أسماءَ المدنِ وسماءَها.

في هذه البلادِ الَّتي تحاكمُني يوميَّاً عاشَتْ حشودٌ من الرِّجالِ والنِّساءِ بهويَّاتهم المتمايزة، وأنتجوا شعراً ونثراً وموسيقا، وصنعوا حياةً وتقلَّدوا رتباً وحجزوا لأنفسهم مراكزَ الصَّدارةِ في تاريخٍ غيرِ قابلٍ للإلغاء.

وكلَّما ضاقَ بي الفضاءُ وعصفَتْ بقلبي جائحةُ الفقدان أعودُ لأتذكَّرَ مئاتَ القصائدِ الَّتي أعبرُ فيها كغزالٍ يتغنَّى به شعراء ويتصبَّبونَ في عشقه معليينَ بين النَّاسِ جميعاً سلطةَ الحبِّ الَّذي لا رادَّ له، مترفعينَ عن اللَّوم، متعالينَ على البغضاء، مبتعدينَ عن ذوي العقولِ الضَّيِّقة، والقلوبِ المغلقة.

في دمشق ملاذي ومسكني، كلَّما انغلقَ بابٌ في وجهي، انفتحَ باب، وكلَّما أنكرَني شارعٌ استقبلَني آخر وأخفاني كما يخفي أحزانَ ومسرَّات من كانوا هنا.

لقد اعتدُّتُ على تعريفِ حياتي اليوميَّة هنا بوصفها صراعاً، جملةً طويلةً من المقاومةِ الشَّرسة: مقاومةُ المظالمِ والعدوان، مقاومةُ الاستسلامِ لغوايةِ الموتِ والنِّهاياتِ الاصطناعيَّة. ومع ذلك كلِّه أحيا وأعثرُ في حالكِ الظَّلامِ على السَّعادة، مسرَّاتٌ صغيرة تغذِّي روحي الَّتي تختنقُ بأوكسيدِ الكراهية والانشطارِ المستمرِّ لجزيئاتِ ذاتي المضطربة.

أنا قلقٌ متصاعدٌ تدفعُني تحديقةُ الآخرين نحوَ هيئةٍ أخرى، ويشدُّني تقديري الأعلى لذاتي أن أتمسَّكَ بمكاني في ذروةِ السُّلَّم الملائكيِّ للحسِّ السَّليم.

إنَّني مؤمنةٌ بالحبِّ في نوحي الصَّادح، منغمسةٌ في النَّجوى اللَّيليَّة، مسافرةٌ في حدودِ النَّارِ بينَ الأحمرِ والأزرق. سأنجو، أحدِّثُ نفسي، فلدي بصيرتي، وسفينتي ستعبرُ بحرَ الحزنِ الكامدِ هذا.

سأحملُ معي كلَّ تلكَ الأصوات، يخيَّل إليّ، وكلَّ تلكَ المشاهد، وأنا ذاتي سأرى حيواتٍ لم تُكتبْ بعد تؤدِّيها شخوصٌ مجهولة، إنَّ أسوأَ ما قد يحدث: أن تستيقظ.

من تُراكِ تكونينَ أيَّتها الغريبة؟

 أنا حيَّة الأزل، كيانٌ من أثيرٍ رحمانيّ التَّجلِّي، شيطانة وشَعْري مُسدلٌ على السديم، إذا رأيتني تعمى، وإذا أبصرْتَني تصل، وإن سمعْت غنائي فادعني قائلاً: يا ليل يا عين.

أنا عشيرةٌ كاملة سلالةُ ماءِ الزَّمان، رجالٌ كالنِّساء، أجسامُنا مكتملةُ الذُّكورة لكنَّ واحدَنا شِبْهُ امرأة، نحنُ نساءٌ قتيلاتٌ في النَّسلِ نعودُ لنحيا صارخاتٍ في جوفِ رجال. ونحنُ من المتشبِّهينَ المرادُ التَّحذيرُ منهم، الشُّهودُ الأكفياءُ على العُصاةِ الحقيقيِّينَ والخطأة. ما نلمحُ وجهَ أحدٍ منهم حتَّى صنَّفناهُ في السِّجلَّات، نحنُ الَّذينَ نقودُ الرَّجلَ إلى إبليسه، نحنُ جواسيسُ الجحيمِ الصَّابرين.

قضينا التَّاريخَ نؤلِّفُ القصائدَ والأغاني ونصنعُ ابتهالاتٍ وصلواتِ تقديس، رقصنا كثيراً صنعنا أصناماً ورفعنا الأوثانَ والأنصابَ وأغوينا البناتِ والبنين تفوَّقنا على الشَّياطين. سواءٌ أأحسنتُم أم أسأتُم إنَّما تؤدونَ أنفسكَم إلى القوّامِ وارثِ الكلمةِ الحقّ. وعنه تسألون؟

من زلَّ منَّا موتاً يموت، ومن عدلَ بكاءً يبكي. عيونُنا تقرأُ العدم أبصارُنا تفسِّرُ المحال.

شهداؤنا خطاةٌ آثمون غوَّاصونَ في دياجيرِ الظُّلماتِ محكومٌ عليهِم مُدانونَ في العالم السُّفليّ، أطهارٌ مطهَّرونَ منسلِّينَ من ذواتهم، عابرينَ بهيئة الأصل مُنقلبينَ في موقفٍ ومقام.

وحينما يرجُمنا العالُم نختبرُ بالرَّقصِ نُقاطَ أعصابِنا الملتهبَة، يتجوَّلُ إكسيرٌ شافٍ بتجلِّيهِ الأفعوانيِّ في عروقِنا متَّصلاً بخفَّةٍ ورشاقةٍ مع وعيٍ مفتوحٍ على تحديقةِ عقلِ الكون.

كتابة: ليل يوسف، كاتب/ة سوري/ة مقيم/ة في دمشق

عمل فني: دينو فالس/إلياس المصري