في مشهد غير مسبوق في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، اجتمع الآلاف في قلب العاصمة التونسية، وتحديدًا في شارع الحبيب بورقيبة، الذي يُعد رمزًا لحرية التعبير بعد انطلاق ثورة الياسمين منه في 2011، وذلك دعمًا لتوصيات لجنة الحريات الفردية والمساواة، وعلى رأسها مطلب إلغاء تجريم المثلية الجنسية، ووقف العمل بالفحوصات الشرجية القسرية.
مظاهرة تاريخية ومشاركة لافتة من منظمات حقوقية
شهدت التظاهرة مشاركة واسعة من مختلف مكونات المجتمع المدني، ومنها المنظمات المدافعة عن حقوق المثليين ومجتمع الميم، والتي رفعت علم قوس قزح بفخر وسط الحشود.

كما شاركت منظمات أخرى مثل موجودين، وشوف، ودمج، رافعة شعارات تنادي بحرية الجسد وكرامة الإنسان.
تُعد هذه المظاهرة خطوة نوعية على درب الاعتراف القانوني بحقوق أفراد مجتمع الميم-عين في تونس، خاصة وأنها جاءت بالتزامن مع مناسبة عيد المرأة في 13 أغسطس، والتي استخدمها المتظاهرون للمطالبة بالمساواة ورفع التمييز عن الفئات المهمشة.
الفصل 230: أداة قانونية لقمع المثليين
أحد أبرز المطالب التي نادى بها المحتجون هو إلغاء الفصل 230 من المجلة الجزائية التونسية، الذي يُجرّم “اللواط” و”السحاق” ويعاقب بالسجن لمدة تصل إلى ثلاث سنوات.
ويُعد هذا الفصل من أبرز أدوات القمع القانوني الموجهة ضد المثليين في تونس.
ورغم صدور حكم مهم من محكمة الاستئناف في يوليو 2018 ينص على أن العلاقات الجنسية الرضائية بين البالغين من نفس الجنس لا تُعد جريمة، إلا أن الفصل لا يزال قائمًا، مما يتيح للسلطات الأمنية ملاحقة الأفراد على أساس ميولهم الجنسية.
الفحوصات الشرجية: ممارسة تُصنّف دوليًا كتعذيب
لم تتوقف المطالب عند حدود إلغاء التجريم فقط، بل تعدتها إلى المطالبة الصريحة بوقف العمل بالفحوصات الشرجية، التي تُمارس بشكل قسري على الأشخاص المشتبه في كونهم مثليين.
وتُعد هذه الفحوصات، بحسب منظمات طبية وحقوقية عالمية مثل منظمة الصحة العالمية وهيومن رايتس ووتش، إجراءً غير علمي وانتهاكًا صارخًا للكرامة الجسدية.

وقد أكدت اللجنة الوطنية للوقاية من التعذيب في تونس سابقًا أن الفحوصات الشرجية تمثل خرقًا لحقوق الإنسان، داعية إلى تجريمها ووقف استخدامها الفوري.
لجنة الحريات الفردية والمساواة: توصيات تاريخية
جاءت هذه التظاهرة ردًا شعبيًا داعمًا للتقرير الذي أصدرته “لجنة الحريات الفردية والمساواة”، وهي لجنة رئاسية شُكّلت في 2017 بتكليف من الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، برئاسة بشرى بالحاج حميدة، وهدفت إلى اقتراح إصلاحات تتماشى مع دستور 2014 والمعايير الدولية لحقوق الإنسان.
من أبرز توصيات اللجنة:
- إلغاء الفصل 230 الذي يُجرّم المثلية الجنسية.
- منع الفحوصات الشرجية القسرية.
- المساواة في الإرث بين الجنسين.
- إلغاء عقوبة الإعدام.
- تعزيز حرية الضمير والمعتقد.
ردود الفعل: دعم وتحديات
لاقى التقرير ترحيبًا كبيرًا من منظمات حقوق الإنسان، منها هيومن رايتس ووتش، التي دعت السلطات التونسية إلى تبني الإصلاحات المقترحة.
وأكدت آمنة القلالي، مديرة مكتب المنظمة في تونس، أن هذه الخطوات تمثل فرصة تاريخية لتعزيز كرامة المواطن التونسي بصرف النظر عن ميوله وهويته.
لكن في المقابل، واجهت المقترحات مقاومة من بعض التيارات المحافظة، وعلى رأسها حركة النهضة، التي اعتبرت بعض التوصيات “مهددة لبنية الأسرة التونسية وقيم المجتمع”.
خطوة إلى الأمام رغم التحديات
رغم كل العوائق، فإن هذه التحركات الشعبية والنقاش المجتمعي الواسع يُعتبر مؤشرًا على وعي متنامٍ لدى الشباب والمجتمع المدني بأهمية المساواة والحرية الفردية، خصوصًا فيما يتعلق بمجتمع الميم-عين.
وفي تصريح لوسائل الإعلام، قال منير بعتور، رئيس جمعية شمس: “نحن لا نطالب إلا بالحق في الحياة والكرامة والعدالة. إلغاء الفصل 230 ليس فقط مطلبًا قانونيًا، بل مطلب إنساني”.
الخلاصة
إن ما شهدته تونس في 13 أغسطس 2018 يُعد علامة فارقة في مسيرة حقوق الإنسان في الدول الناطقة بالعربية. فالمطالبة العلنية بإلغاء تجريم المثلية الجنسية ووقف الفحوصات القسرية، وسط شارع تاريخي وبدعم مجتمعي واسع، تمثل خطوة شجاعة وجريئة نحو مستقبل أكثر عدالة وشمولية.