في 14 مايو 2020، أسدل الستار على واحدة من أبرز الأعمال الدرامية في تاريخ التلفزيون الأمريكي، حين عرضت الحلقة الأخيرة من مسلسل “How to Get Away with Murder”، والذي عُرض على شبكة ABC.
لم يكن المسلسل مجرد سلسلة من ألغاز الجريمة والدراما القانونية، بل شكّل علامة فارقة في التمثيل المتنوع، وخصوصًا في تقديم شخصيات مثلية وبايسكشوال ومن مجتمع الميم بمستوى من العمق والإنسانية قلّ مثيله على الشاشة.
نظرة عامة على المسلسل: حبكة مشوّقة على مدى ستة مواسم
“How to Get Away with Murder” هو مسلسل دراما قانونية أمريكي من إنتاج “Shondaland”، وابتكره الكاتب بيت نواك وعُرض لأول مرة في 25 سبتمبر 2014 على شبكة ABC.
استمر المسلسل لستة مواسم، واختتم موسمه الأخير في 14 مايو 2020 بعد عرض 90 حلقة.
تدور القصة حول “أناليس كيتينغ”، محامية دفاع بارعة وأستاذة قانون في جامعة مرموقة، تختار مجموعة من طلابها للعمل معها في مكتبها.
سرعان ما يجد الفريق نفسه متورطًا في شبكة معقدة من الجرائم والأسرار والفساد، تجعل من النجاة “فنًا” بحد ذاته.
تميز المسلسل بسرعة حبكته وتشويق أحداثه، مما جعله أحد أكثر الأعمال إثارة للجدل والنقاش بين الجمهور والنقاد على حد سواء.
وحظي بترشيحات وفوز بجوائز عديدة، أبرزها جائزة Emmy التي حصلت عليها فيولا ديفيس، لتصبح أول امرأة سوداء تفوز بجائزة أفضل ممثلة رئيسية في مسلسل درامي.
آناليس كيتينغ: بطلة بايسكشوال تعيد تعريف القوة والهوية
لعبت النجمة الحائزة على الأوسكار فيولا ديفيس دور “أناليس كيتينغ”، أستاذة القانون ذات الشخصية المعقدة التي تخوض صراعات قانونية وعاطفية ومجتمعية.
إحدى أبرز معالم شخصيتها كان كشفها عن ميولها الجنسية وكونها مزدوجة الميول الجنسية (تنجذب للنساء والرجال)، وهو أمر نادر الحدوث في بطلات الدراما الأمريكية والعالمية.

في أحد مشاهد الموسم الأخير، اعترفت آناليس لوالدتها المريضة بحقيقة علاقتها السابقة مع امرأة، وبعدها بفترة قصيرة، أعلنت ميولها في المحكمة ضمن سياق المسلسل قائلة: “أنا امرأة مزدوجة الميول الجنسية”.
هذه اللحظة لم تكن مجرد تطور درامي، بل كانت فعلًا سياسيًا وثقافيًا يؤكد أن تمثيل النساء مزدوجات الميول الجنسية يجب أن يكون واضحًا وجريئًا.
علاقة كونور وأوليفر: قصة حب أيقونية للمشاهدين المثليين
منذ بداية المسلسل، تابع الجمهور تطور علاقة كونور والش، طالب القانون الوسيم، وأوليفر هامبتون، خبير التكنولوجيا الذكي.
تحولت علاقتهما من حب عابر إلى شراكة حقيقية توّجت بالزواج، وهو ما وصفه الممثل كونراد ريكامورا (أوليفر) بأنه “قلب المسلسل”.

لم تكن العلاقة مثالية دائمًا، فقد مرت بصراعات بسبب الخيانة، والمرض، والضغوط الخارجية، لكنّها ظلت نموذجًا إنسانيًا ومعقدًا يُحتذى به في تمثيل الحب بين الرجال على الشاشة.
إيف روثلو وتيغان برايس: نساء قويات من مجتمع الميم
قدمت الممثلة فامكي يانسن شخصية “إيف روثلو”، الحبيبة السابقة لأناليس، والتي ظهرت في مواسم متفرقة لتعيد فتح جراح الماضي وتؤكد عمق الهوية الجنسية لأناليس.

لاحقًا، تطورت علاقة رومانسية بين أناليس وتيغان برايس، وهي محامية قوية ذات أصول أفرو-لاتينية، لعبت دورها أميرة فان ببراعة لاقت استحسانًا واسعًا.

قالت أميرة فان عن الدور: “هذا المسلسل يصل إلى ملايين الناس حول العالم، وأعتقد أن رؤية امرأتين تتبادلان القبل أمام جمهور عالمي يرسل رسالة واضحة: هذا هو العالم الذي نعيش فيه.”
التمثيل الإيجابي للمتعايشن مع فيروس نقص المناعة (HIV)
في عام 2018، خاض المسلسل أحد أكثر خطوطه الدرامية جرأة، عندما كشف “أوليفر” عن إصابته بفيروس نقص المناعة البشرية (HIV).
وقد تمت كتابة هذا الخط السردي بالتعاون مع مؤسسة GLAAD التي نظّمت جلسات مع أشخاص متعايشين مع الفيروس لنقل تجاربهم الحقيقية.

أكد الممثل كونراد ريكامورا (أوليفر) أن تقديم الشخصية المتعايشة كإنسان فاعل وناجح وليس كضحية، غيّر نظرة الكثير من الجمهور: “من المهم أن نُظهر شخصًا يعيش حياته اليومية، ويحب، ويُحب، ويزدهر، وهو متعايش مع الفيروس.”
تأثير حقيقي على الجمهور المثليين والبايسكشوال ومجتمع الميم
لم يكتفِ المسلسل بالتمثيل، بل أصبح مصدر إلهام. بحسب الممثل كونراد ريكامورا (أوليفر)، كان يتلقى رسائل أسبوعية من مشاهدين قالوا إنهم تمكنوا من تقبل ميولهم أو البوح بها لعائلاتهم بفضل شخصية أوليفر أو علاقته بكونور.
وقد قال: “هذا الدور شفاني من جراح الماضي، حين فقدت أصدقائي بعد إعلان مثليتي في المدرسة الثانوية. دعم الجمهور بعد عرض الحلقة الأولى كان كافيًا ليمحو سنوات من الألم.”
كيف غيّر المسلسل مشهد التمثيل الكويري التلفزيوني؟
وفقًا لمبتكر العمل بيت نواك، لم تكن النية الأصلية تقديم مسلسل “مثلي”، لكن الرحلة الشخصية لفريق الكتابة قادتهم لاكتشاف “وجهة نظر كويرية” طبيعية تم دمجها في الحبكة.
وأضاف: “التراث الكويري للمسلسل هو أكثر ما أفتخر به، لقد جعلني أكتشف ذاتي ككاتب وأعبر عنها بحرية.”
وقد تُوج هذا التمثيل بفوز المسلسل بالجائزة الكويرية GLAAD Media Award لأفضل مسلسل درامي عام 2015، وهو ما شكّل دافعًا إضافيًا للمسلسل لمواصلة تسليط الضوء على شخصيات من مجتمع الميم بأصالة وعمق.
التنوع هو القاعدة وليس الاستثناء
أكدت فيولا ديفيس أن المسلسل لم يقدم تمثيل مجتمع الميم فقط، بل كسر العديد من الصور النمطية حول المرأة، والجندر، والعرق.
وقالت في لقاء سابق: “آمل أن يلهم العمل الكتّاب والمخرجين ليقولوا لأنفسهم: نعم، يمكننا فعل ذلك. جمهورنا يريد المزيد.”
إرث سيبقى طويلًا
مع توفر المواسم على منصة نتفليكس، لا يزال المسلسل يصل إلى جماهير جديدة حول العالم.
وأشار مبتكر العمل بيت نواك إلى أن آلاف الرسائل تصلهم من شباب مثليين وكويريين وجدوا في شخصيات المسلسل تمثيلًا صادقًا لقضاياهم.
المسلسل لم يروِ فقط قصص الجريمة والمحاكم، بل صنع مساحة للهوية، والتمثيل، والحب، والكرامة.
How to Get Away with Murder لم يكن مجرد مسلسل عن محامية تحاول النجاة من جرائم معقدة. كان دراما إنسانية بامتياز، شجاعة، وصادقة، واحتضنت الهويات المهمّشة وجعلتها مركز القصة.
إن إرث هذا المسلسل في تمثيل شخصيات مجتمع الميم سيظل حاضراً، لا كاستثناء بل كقاعدة جديدة في عالم التلفزيون، حيث تُروى القصص بشجاعة واحترام، وتنعكس الحياة كما هي، بكل حبها، وألمها، وتعقيداتها.