أطياف

طير

كان العرب قديمًا يدفعون بطيرهم، وينظرون أي الجنبين اختار أن يطير، فإن طار يمنة غدوا في رحلهم وترحالهم، وإن طار يَسرة تشاءموا من هدفهم وتراجعوا. حين سمعت الحكاية طفلًا في سياق شرح الحديث، تساءلت من غير أن ألفظ فكرتي، ماذا إن طار الطير إلى الأمام أو إلى الخلف؟ ماذا وإن طار بزاوية ثلاثين درجة إلى اليمين أو ستين إلى اليسار؟ هل برع العرب في حساب المثلثات أم أنهم لم يهتموا بدقة توقعهم؟ ماذا وإن كانت زاوية طيران الطير تؤثر في خيرية الطريق، فمثلًا إذا كانت زاوية الطيران ليست عمودية، فذلك يعني أن هناك شر أبعد على سبيل المثال، أو أن هناك خير أكبر في طريق آخر. ظلت الأسئلة حبيسة على كل حال، ولا أعتقد أننا في عوالمنا المتوازية قد امتلكنا القدرة الكافية لتجريب سؤال كهذا. يومًا ما، سنطيّر مئة طير في مئة عالم بنفس ظروف التجربة، ونتأمل مسار كل طير ومسار كل مسافر بعد طيره.

في أوقات كثير أخاف من تطيّري. يوم رأس السنة قابلت ولدًا جديدًا. بعد عشر دقائق من جلوسي، تفاجئت بالإسورة الجلدية في يدي اليسرى وقد انقطعت، تمامًا من مكان كتابة اسم قطتي. أصبح الاسم نصفين. تعجبت أني ربما لم ألحظ تشققها مسبقًا، أو ربما لاحظته وأهملته. لكن لماذا تنقطع تمامًا؟ وتنقطع الآن في وسط القاهرة في ليلة رأس السنة، وأنا أجلس أمام الأجنبي. صوت ما بداخلي قال بأننا سنة باينة من أولها، لكن يدي اليمنى لم تكن مصدقة ببلاهة، فظلت تقرب جانبي الإسورة وكأنهما ستتلاحمان بالليزر الخارج من عيني. بعد ساعة تقريبًا استأذن الواد وغادر لاستكمال الليلة مع أصدقاءه، وراحت آمالي في قبلة جديدة لسنة جديدة عند منتصف الليل.

ربما كانت رسالة من السماء بعثتها قطتي تحذرني من شيء ما؟ لكنها تكرهني، أعرف ذلك جيدًا. على سرير المستشفى البيطري، بينما يتسارع انخفاض درجة حرارتها، هبشت يدي اليسرى، وأنا أحاول تثبيتها على سرير الكشف حتى تتمكن الطبيبة من وضع الترمومتر في توتة القطة. هبشتني لأنها تلومني على إهمالي. أي مكتئب يستطيع العناية بكائن آخر؟ حذرته طبيبته النفسية من قبل هذه الليلة بسنتين أو ثلاثة، بأن الحيوانات مسؤولية كبيرة. لكن بيت المهمل يخرب قبل بيت الكافر، وقطة المهمل تموت قبل قطة الكافر، وربما هو مهملٌ كافر.

أحب أغنية “بلاش تبوسني في عينيا” جدًا. أغنية عبد الوهاب جميلة حقًا، لكنها نبوءة أيضًا. وأنا لا أتعامل مع النبوءات بسلاسة، هل تعني بوسة العين فراقًا أكيدًا؟ لكنني أحب كل القبلات، ولا أظن أني أقبل أحدهم في عينه تمامًا، أقبل أجفانهم، لا تحسب تلك بوسة في العين يا عبد الوهاب أرجوك.

 في آخر ليلة نام بجواري حبيبي الأول، وبعد أن هدأ جسدانا، قبلت خده الأيمن، ثم قبلت عينه اليمنى برفق لم يصل صوته لأي من الجيران. في المرة التالية التي زرته فيها بعد أسبوعين، نام على الكنبة بدون أن يشرح لي ماذا يحدث، أرسل إلى رسالة طويلة في الصباح يعبر فيها عن انزعاجه الشديد من وجودي، وكأن جذوة الحب قد انطفأت مع انطفاء حرارة جسمي في تلك الليلة.

قال لي محمود ونحن نفترق على الواتساب أنه لم ينتبه إلا في هذه اللحظة أن آخر مرة زارني فيها، وأثناء وداعنا أمام محطة المترو، قد قال “أشوف وشك بخير”. استذكر محمود الموقف متأثرًا برمزية الوداع الحزين وغير المخطط. ما لم أقله لمحمود أنني في تلك اللحظة أيضًا تذكرت شيئًا آخر. قبل توصيلي له في محطة المترو بساعتين، وعلى سريري، قد قبلت عينه اليمنى.

لماذا يزورني أبي في منامي يوم كذا؟ ولماذا لا يحذرني من شيء واضح أستطيع تفاديه، بل يحدث الشيء بعد المنام وكأنه تحقق وقت صدور النبوءة، وقراري بالقرير في سريري من عدمه لن يغير شيئًا من حقيقة الكارثة التي ستجدني ولو كنت في برج مشيد. 

لكنني آخر مرة رأيت فيها أبي قبّلت قورته، ربما انحدرت شفتي اليسرى على جفنه الأعلى. أتذكر ذلك جيدًا الآن، لقد كنت أقف على يمينه، مستعدًا للخروج من غرفة المستشفى. انحنيت، قبلته، وقلت: “مع السلامة”.

يبدو أن عبد الوهاب مبيهزرش في نبوءته، بوسة العين تفرق فعلًا.

كتابة: مَريد