تنتشر المفاهيم الخاطئة والمغلوطة عن المثلية الجنسية والمثليين بين أفراد المجتمع وأحيانًا بين بعض المثليين أنفسهم بشكل كبير، وخاصةً عند محاولات التساؤل عن أسباب الميول الجنسية المثلية.
من المفاهيم الخاطئة الشائعة التي لا تزال تُتداول بكثرة، رغم أن الأدلة العلمية تُثبت عكس ذلك، فكرة أن المثلية الجنسية نتيجة اعتداء أو صدمة جنسية حدثت في مرحلة الطفولة وأن كل طفل مر بتجربة مؤسفة من اعتداء أو عنف جنسي أو اغتصاب سوف يكون مثليًا عندما يبلغ.
هذا الاعتقاد، الذي رسّخته بعض السرديات الاجتماعية والثقافية والطبية والفنية والإعلامية والدينية، ليس مُضلّلًا ومغلوطًا فحسب، بل ضار ومؤذي للأطفال ضحايا العنف الجنسي وللمثليين ولكافة أفراد المجتمع وخاصةً أقارب وأصدقاء الأطفال ضحايا العنف الجنسي والمثليين.
في هذه المقالة، سنكتشف هذا الاعتقاد الخاطئ، ونكشف جذوره في الخطاب الاجتماعي، ونسلط الضوء على كيفية تحدي البحث والفهم المعاصرين لفكرة أن الميول الجنسية المثلية نتيجة اعتداء أو صدمة في الطفولة أو خلال مرحلة النشأة والبلوغ وخاصة الاعتداءات والصدمات الجنسية.
أصول الاعتقاد الخاطئ بأن المثلية الجنسية نتيجة اعتداء جنسي في الطفولة
ترجع أصول الاعتقاد المجتمعي السائد بأن المثلية الجنسية ناتجة عن صدمة جنسية في مرحلة الطفولة والنشأة إلى النظريات النفسية المبكرة مع بدايات تشكل علم وطب النفس الحديث والمواقف الثقافية السائدة في المجتمع.
كان عالم الطب النفسي النمساوي سيغموند فرويد من أوائل مُؤيدي هذه الفكرة، حيث ربطت نظرياته الخاصة بـ الجنسانية (الميول والتفضيلات والممارسات الجنسية) غالبًا بين مشاكل النشأة والنمو وبين السلوكيات الجنسية للبالغين بشكل عام.
زعم سيغموند فرويد أن التوجه الجنسي للفرد قد يتأثر بتجارب الطفولة المبكرة، بما في ذلك التفاعلات بين الآباء والأبناء.
رغم أن أعمال سيغموند فرويد مهدت الطريق لكثير من التحليل النفسي الحديث، إلا أن نظرياته الخاصة بالميول والتفضيلات والممارسات الجنسية كانت تخمينية، وقد فقدت مصداقيتها منذ ذلك الحين مع تطور العلم والطب النفسي وتخلصه تدريجيًا من التأثر الثقافي والمجتمعي والديني وتمسكه وتطويره منهجيات علمية خالصة. المصدر: (فرويد، ثلاث مقالات في النظرية الجنسية، 1905)
حيث خلال القرن التاسع عشر والعشرين، لم تكن الأوساط الطبية والنفسية بعيدة عن التأثر بالتحيزات والآراء المجتمعية والثقافية السائدة مثل كراهية المثليين وكراهية السود وأصحاب البشرة الداكنة وكراهية النساء، لذلك، اعتبرت تلك الأوساط أن المثلية الجنسية والمثليين مرضى، كما اعتبر بعضها أن السود وأصحاب البشرة الداكنة أقل في معدلات الذكاء وأكثر وحشية من أصحاب البشرة البيضاء، وكما اعتبر بعضها أن النساء مجنونات لأنهن نساء فيما عُرف باسم “هستيريا النساء”.
في منتصف القرن العشرين، افترض بعض علماء النفس والأطباء النفسيين أن الأفراد المثليين والمثليات قد تعرضوا لصدمات نفسية مبكرة في الطفولة ومرحلة النشأة، وخاصةً الاعتداء الجنسي، واعتقد هؤلاء العلماء والأطباء أن الاعتداء الجنسي ربما عطل تطور هوية جنسية “طبيعية”.
وجاءت هذه الافتراضات والاعتقادات التي كونها بعض العلماء والأطباء النفسيين من النظرة المجتمعية والثقافية والدينية السائدة آنذاك تجاه المثليين والتي غالبًا ما كانت تعتبر المثليين “منحرفين” و”غير طبيعيين” وكانت تكره المثليين وتدعم اضطهادهم والتنكيل بهم بشتى الطرق. أي أن هؤلاء الأطباء والعلماء لم يستندوا إلى أدلة علمية أو بيولوجية أو نفسية بل استندوا إلى خلفيتهم الثقافية والدينية التي تكره المثليين وتحقر منهم وتجردهم من إنسانيتهم.
ما فعله هؤلاء العلماء والأطباء كان خطيرًا جدًا، لأنه حول الرأي والمنظور المجتمعي إلى دليل طبي، وعلى أساسه وبسببه تعرض عشرات آلاف المثليين حول العالم ومنذ ذلك الوقت لعشرات الانتهاكات وصلت إلى التعذيب النفسي والجسدي والقتل.
استمر هذا الاعتقاد في بعض الأوساط، على الرغم من دحضه من خلال عقود من البحث العلمي والطبي والنفسي القائم على منهجيات علمية غير متأثرة بالآراء الدينية والمجتمعية والثقافية السائدة. ومع ذلك، لا يزال هذا المفهوم الخاطئ يؤثر على نظرة بعض الأفراد للمثلية الجنسية والمثليين، وتكون له عواقب سيئة على المثليين والترانس وأفراد مجتمعات الميم حول العالم، حيث أنه أساس ثقافات الكراهية وممارسات العنف والتنكيل بالمثليين والترانس وأفراد مجتمعات الميم في المؤسسات الصحية والتعليمية والعمل والبيئات العامة والخاصة.
هل المثلية مرض؟
دور البحث العلمي في دحض المفهوم الخاطئ بأن المثلية الجنسية نتيجة اعتداء جنسي في الطفولة
دحضت التطورات العلمية على مدى العقود القليلة الماضية فكرة أن المثلية الجنسية ناتجة عن صدمة في مرحلة الطفولة والنشأة. وقد أكدت الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين (APA) وغيرها من المنظمات الطبية الرائدة باستمرار أن التوجه الجنسي، بما في ذلك المثلية الجنسية، ليس نتيجة لاعتداء جنسي أو صدمة في مرحلة الطفولة والنشأة.
في الواقع، أدانت الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين (APA) العلاج لتحويلي أو ما يعرف باسم “علاج المثلية” – وهي ممارسات تسعى لتغيير التوجه الجنسي للفرد – ووصفتها بأنها غير فعالة وضارة. المصدر: (الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين، “الاستجابات العلاجية المناسبة للتوجه الجنسي”، 2009)
تشير الأبحاث في مجالات علم النفس وعلم الأعصاب وعلم الوراثة إلى أن التوجه الجنسي بشكل عام، أي المغايرة الجنسية والمثلية الجنسية وازدواجية التوجهات الجنسية واللاجنسية وغيرها، هو تفاعل معقد بين العوامل البيولوجية والوراثية (الجينية) والبيئية.
فعلى سبيل المثال، تشير الدراسات التي أجريت على التوائم إلى وجود عنصر وراثي في التوجه الجنسي، على الرغم من عدم تحديد “جين مثلي” واحد، أي أن جينات متنوعة قد تلعب دورًا في تحديد الميول والتوجهات الجنسية بشكل عام.
حيث أظهرت دراسة أجراها Bailey and Pillard بيلي وبيلارد (1991) أن التوائم المتطابقة أكثر احتمالاً لمشاركة التوجه الجنسي نفسه من التوائم غير المتطابقة، مما يشير إلى وجود تأثير وراثي. كما وجد تحليل إحصائي أجراه ساندرز A R Sanders وآخرون (2015) أن معدلات التشابه في التوجه الجنسي لدى التوائم المتطابقة كانت أعلى منها لدى التوائم غير المتطابقة، مما يشير إلى وجود أساس بيولوجي.
وقد تلعب التأثيرات الهرمونية أثناء نمو الجنين داخل الرحم دورًا في تحديد التوجه الجنسي (Bogaert, 2006). بالإضافة إلى ذلك، يمكن للعوامل البيئية، مثل ديناميكيات الأسرة والثقافة وتجارب الحياة الفردية، أن تؤثر على إدراك الشخص وتواصله مع ميوله وتوجهاته الجنسية أو أحد أطيافها والتعبير عنها، حيث أن الميول الجنسية متنوعة وتشكل طيفًا كبيرًا وواسعًا ويغلب على البشر الميول الجنسية المزدوجة (بايسكشوال) ولكن بنسب ودرجات متفاوتة. (Swann, Sexual Orientation and Human Development, 2011)
ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أنه لم يُثبت أن الصدمة أو الإساءة والاعتداء عامة والجنسي خاصةً في مرحلة الطفولة والنشأة عاملٌ حاسم من أي جهة علمية في العالم.
في الواقع، معدلات الميول الجنسية المثلية بين الناجين من الاعتداء الجنسي والصدمات الجنسية تمثال معدلات الميول الجنسية الأخرى لدى عامة السكان. وهذا يُشير إلى أن الصدمة لا تُؤدي إلى تغيير في التوجه الجنسي، وأن عوامل مثل الاستعداد الوراثي وتأثيرات النمو المُبكر أكثر أهمية بكثير. لأنه لو كان الاعتداء الجنسي في مرحلة الطفولة عاملاً رئيسيًا في تحديد التوجه الجنسي، ستكون النتيجة ارتفاع معدل المثلية الجنسية لدى الناجين من الاعتداء من معدلاتها لدى عامة السكان، ولكن هذا ليس صحيحًا.
على سبيل المثال، لم تجد دراسة أجراها المركز الوطني لموارد العنف الجنسي، وهو منظمة أمريكية غير ربحية تعمل على معالجة أسباب وتأثير العنف الجنسي، في دراسة أجراها عام 2016 أي ارتباط يُذكر بين الاعتداء الجنسي في مرحلة الطفولة والتوجه الجنسي لدى البالغين، مما يُضعف أكثر من مصداقية نظرية الصدمة. نعتمد على المركز الأمريكي نظرًا لغياب البيانات المشابهة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط وعدد كبير من الدول.
كيف تؤثر نظرية الصدمة النفسية والجنسية سلبًا على المثليين ومجتمعات الميم؟
لا تزال نظرية أن المثلية الجنسية ناتجة عن إساءة معاملة الأطفال تلعب دورًا في تشكيل المواقف والسياسات المجتمعية والحكومية حول العالم.
حيث يُرسّخ هذا المفهوم الخاطئ صورًا نمطية ومعلومات خاطئة ومغلوطة ضارة عن المثليين ومزدوجي التوجهات الجنسية والترانس واللاجنسيين وأفراد مجتمعات الميم، إذ يُصوّرهم كأشخاص مُدمّرين أو مُحطّمين أو مرضى يجب “شفاؤهم” من خلال التدخل الطبي أو العلاج.
كما يلقي هذا الرأي باللوم على الأفراد بشكل غير مُبرّر بسبب ميولهم الجنسية، مصورًا الميول الجنسية على أنها أمرٌ يُمكن أو ينبغي تغييره.
قد يُغذي استمرار نشر هذه الخرافة الضارة بين أفراد المجتمع الممارسات والسياسات التمييزية والتي تشجع على الكراهية والرفض أو تتسبب في ممارسات العنف ضد المثليين وأفراد مجتمعات الميم.
كما تشجع هذه الخرافة ما يُسمى “العلاج التحويلي” أو “علاج المثلية” أو “علاج اضطراب الهوية الجنسية/الجندرية”، والذي يهدف إلى تغيير التوجه الجنسي أو الهوية الجندرية للشخص.
المثليين قد يتعرضون للعنف الجنسي في مرحلة الطفولة والنشأة مثل غيرهم من المغايرين وغير المثليين
من أكثر التأثيرات السلبية الناتجة عن هذا المفهوم هو الأثر العاطفي والنفسي الذي يُلحقه بالمثليين وأفراد مجتمعات الميم الذين تعرضوا للعنف والاعتداءات والصدمات الجنسية في مراحل الطفولة والنشأة.
قد يُعاني الأشخاص الذين تعرّضوا للإساءة والاعتداء الجنسي في مرحلة الطفولة والنشأة بالفعل من الصدمة والعار والشعور بالعزلة.
عندما تُخلط الآراء والسرديات المجتمعية بين الاعتداء الجنسي وبين الميول الجنسية المثلية، يُمكن أن يؤدي ذلك إلى مزيد من الوصم ومشاعر لوم وكراهية الذات ورفضها والتصور الخاطئ بأن ميولهم الجنسية المثلية سببها الاعتداء الجنسي وأنهم بحاجة إلى تدخل طبي أو علاج نفسي.
حيث يُمكن أن تُعيق هذه الآراء المجتمعية عملية تعافي الأفراد المثليين ومزدوجي التوجهات الجنسية واللاجنسيين وأفراد مجتمعات الميم الذين تعرضوا لاعتداءات أو عنف جنسي في مراحل الطفولة والنشأة، وتمنعهم من الحصول على الدعم الذي يحتاجونه والذي قد يساعدهم على تجاوز الأثار السلبية للاعتداء والعنف والصدمة الجنسية وعيش حياتهم بشكل طبيعي.
الفهم والقبول هما الحل أمام الصور النمطية والمفاهيم الخاطئة
في ضوء وفرة الأدلة العلمية التي تُفنّد نظرية الصدمة المرتبطة بالمثلية الجنسية، من الضروري أن يُراجع المجتمع فهمه للتوجهات الجنسية عامةً والمثلية الجنسية خاصةً.
المثلية الجنسية تعبيرٌ طبيعيٌّ وسليمٌ عن التنوع في الجنسانية البشرية وعند الكائنات الحية، وينبغي الاعتراف بها على هذا النحو من قِبَل الأفراد والمؤسسات والحكومات على حدٍّ سواء في جميع أنحاء العالم.
ويُعدّ تعزيز التثقيف والتوعية أمرًا أساسيًا لتبديد الخرافات المُحيطة بهويات المثليين ومزدوجي التوجه الجنسي واللاجنسية والترانس وأفراد مجتمعات الميم، وخاصةً الاعتقاد الخاطئ بأن المثلية الجنسية نتيجة صدمة نفسية أو جنسية حدثت في مراحل الطفولة والنشأة.
من الضروري أيضًا توفير مساحاتٍ آمنةٍ وداعمةٍ لأفراد مجتمعات الميم، وخاصةً أولئك الذين قد يكونون قد عانوا أو تعرضوا لـ صدماتٍ أو اعتداءات بأشكالٍ أخرى.
يسمح إدراك أن التوجه الجنسي عامةً لا ينتج عن تحرش أو عنف أو إساءة أو صدمة جنسية، بل ينتج عن مجموعة من العوامل البيولوجية المعقدة، باتباع نهجٍ أكثر تعاطفًا لمساعدة الأفراد على التعافي والازدهار، بغض النظر عن هويتهم الجنسية.
وقد ثبت أن هذه الممارسات تُسبب أضرارًا دائمة، بما في ذلك الاكتئاب والقلق وزيادة الأفكار الانتحارية أو محاولة الانتحار بالفعل والتي قد تنجح في أوقات كثيرة، وقد أدانها أخصائيو الصحة النفسية على نطاق واسع ومنها مؤسسات طبية ونفسية محترفة مثل منظمة الصحة العالمية والجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين، كما أثبتو أن هذه الممارسات غير فعالة ويجب وقفها لأضرارها الكبيرة.
قد يُرسّخ التركيز على الصدمة الجنسية والنفسية والاعتداءات والعنف الجنسي كـ سبب للمثلية الجنسية الاعتقاد بأن المثلية الجنسية اضطرابٌ يحتاج إلى علاج، وليس مجرد اختلاف وتنوع طبيعي في التوجه الجنسي البشري وعند كل الكائنات الحية مثل الطيور والحشرات والحيوانات.
الخلاصة
دحضت عقود من البحث العلمي فكرة أن المثلية الجنسية نتيجةٌ لاعتداءٍ أو صدمةٍ جنسيةٍ في مرحلة الطفولة والنشأة.
هذا المفهوم الخاطئ، المتجذر في نظريات نفسية قديمة مر عليها عقود وجاءت من كراهية وجهل مجتمعي، لا يزال يُلحق الضرر بالمثليين وأفراد مجتمعات الميم من خلال ترسيخ الصور النمطية الضارة وتشجيع ثقافات الرفض والكراهية وممارسات العنف.
مع ازدياد وعي المجتمع بتعقيدات الجنس البشري والكائنات الحية، من الضروري أن نرفض هذه الخرافات الضارة، وأن نتبنى بدلاً من ذلك فهمًا أكثر شمولًا وتعاطفًا وانفتاحًا على التنوع في التوجهات الجنسية.
كي يمكننا بناء عالم يحظى فيه جميع الأفراد، بغض النظر عن هويتهم الجنسية، بالدعم والقبول والحرية للعيش بصدق وعلى طبيعتهم.