أطياف
كوير

حين يموت أصدقاؤنا وأحبابنا الكوير: أحزان لا يُسمح لنا بالبكاء عليها كما نريد

في زمن لا تزال فيه الهوية الكويرية محاطة بالخوف والوصم، تصبح حتى لحظات الموت مُصادرة. لا نعني فقط الموت الفيزيائي الذي يخطفنا فجأة، بل أيضًا موت المعنى، واللغة، والحق في الحداد.

في الأسابيع الأخيرة، رحل أكثر من خمسة شباب كوير في مصر في صمت ومعهم الأيقونة الكويرية التونسية غزالة.

لم أكن أعرفهم شخصيًا، لكنني عرفتهم من المنشورات، من منشورات خاصة تحت النجمة الخضراء على انستجرام، من همسات على واتساب، من صور تغيب فيها الكلمات.

ورغم عدم معرفتي بهمن، إلا أني أعرف موت الكويريين وما يحاوطه جدًا، بل وبشدة.

كانوا كوير. وكانوا، ربما، يشبهوننا. أحبوا كما نحب. خافوا كما نخاف. رحلوا كما قد نرحل نحن، من دون وداع، ومن دون أن يُسمح لنا أن نحزن عليهم كما نحن، لا كما يُتوقع منّا.

الموت حين لا يُسمَح له أن يكون كويرًا

حين يموت شخص كوير، نُحرم من أبسط الحقوق: أن نعلّق صورة، أن نكتب مرثية، أن نحمل علمًا صغيرًا أو نشعل شمعة. نُمنع من البكاء على طريقتنا، من الحزن العلني، من التعبير عن فقدنا بصوت كوير، نُمنع من أن نقول إن الراحل كان يحب رجلاً، أو امرأة، كانت تعرف نفسها خارج الثنائية الجندرية. نُمنع من ذكر الأصدقاء الذين كانوا عائلته الحقيقية، أو الحديث عن الحبيب الذي لم يُمنح الاعتراف لا في حياته ولا موته.

يُختزل الميت في كونه ابن عائلة ما، أو في كونه “شاب/إنسان طيب”، أو “كان يعاني نفسيًا أو جسديًا”، أو “كان بخير وتحدثت معه منذ ساعات فقط”، من دون أي اعتراف بأن جزءًا من هذه المعاناة الظاهرة والباطنة ربما كان المجتمع نفسه.

كانت كراهية وعدم فهم المثليين والترانس والكوير. كان الرفض. كانت المحاولات المستمرة لإجباره على الصمت والتخفي وأن تكون له حياته وحبه وأصدقاءه على الهامش.

نخسرهم مرتين: مرة حين يغيبون عن الحياة، ومرة حين يُجردون من حقيقتهم بعد الموت.

القصص التي نعرفها ولا نستطيع أن نحكيها

في الأيام الأخيرة، انتشرت قصصهم في الرسائل الخاصة. صور سوداء مع رموز قلب مكسور. تعليقات قصيرة مثل “كان حنونًا”، “لم يكن يستحق ذلك”، “أعرف كم كان يحاول”. لا أسماء كاملة. لا منشورات علنية. لا حديث عن هويتهم الكويرية. لأن الحديث عن ذلك في مجتمعاتنا… ممنوع.

في الواقع، نحن نعيش موت أصدقائنا بصمت لأننا نخاف من أن تُسحب منا “الشرعية” حتى في الحداد. إن كتبت منشورًا عامًا تقول فيه إنك تفتقد صديقًا كويرًا، قد تُتهم بـ”نشر الفاحشة”، أو “استغلال الموت”، أو “تشويه السمعة”. لكن الحقيقة أن كل ما نريده هو أن نُحزن بصوت مرتفع، أن نحزن كما نحيا: كوير.

لا عزاء إلا في الخفاء

غالبًا ما تُقيم العائلات جنازات تقليدية، ويُدفن الراحل بأسماء لم يكن يختارها، بملابس لم يكن يرتديها، في طقوس لم يكن يؤمن بها. لا يُذكر شريكه، أو شريكته. لا يُذكر أصدقاؤه الحقيقيون. لا يُقرأ اسمه الذي عرفه عن نفسه. يُدفن مرة أخرى، لكن هذه المرة في نفي رمزي يقتله مجددًا.

أين نحن من مشهد الوداع؟ أين ذكرياتنا؟ أين حبنا؟ أين صورنا؟

نُجبر على الحزن سرًا. نُرسل لبعضنا صور الشموع التي أشعلناها في غرف النوم. نكتب أسماءهم على دفاترنا. نغلق هواتفنا ساعات طويلة. ننتظر أن يمر كل شيء من دون أن نُلاحظ. نعود لنكمل الحياة، بينما لا تزال قطعة منّا مكسورة.

الحزن الكويري: لغة لم نتعلمها بعد

لم نتعلم في مدارسنا، ولا في بيوتنا، كيف نحزن ككوير. لم يخبرونا أن الحزن ليس له جنس، ولا دين، ولا قالب. لم يعترفوا بأننا يمكن أن نحب حبًا حقيقيًا، وبالتالي لم يعترفوا أن خسارتنا حقيقية. لذلك، حين يموت أحدنا، نظل عالقين في منطقة رمادية بين البكاء والاختناق.

لكن الحزن، مثل الحب، لا ينتظر الإذن.

قد لا نستطيع أن ننشر صورهم، أو أن نحضر الجنازات، أو أن نكتب ما نشعر به بأسمائنا الحقيقية، لكننا نحزن. نحزن بصمت، وعمق، وصدق. نحزن كلما استيقظنا ورأينا قصتهم وقد اختفت من انستجرام، كلما سمعنا اسمًا يعرفه قلبنا ويخفيه لساننا.

من أجلهم، نحكي

رغم الألم، يجب أن نروي. أن نكتب، ونرسم، ونبكي، ونقول إنهم كانوا هنا. كانوا أصدقائنا. كانوا يشبهوننا. رحلوا قبل أوانهم. لم يكن رحيلهم عاديًا. ولم يكن حزننا بسيطًا.

يجب أن نُوثّقهم. أن نحفظ أسماءهم في دفاتر الشعر، في النصوص، في المدونات، في الأغاني. يجب أن نُعيد إليهم ألوانهم بعد أن ألبسهم المجتمع السواد.

الحزن فعل مقاومة. التذكر عمل سياسي. أن تقول “كان كويرًا… وكان محبوبًا”… هو تمرّد على ثقافة النسيان القسري.

سارة حجازي وغزالة: يونيو الذي لا ينسى

في حزيران/يونيو من هذا العام، تمر الذكرى الخامسة على رحيل الناشطة المصرية سارة حجازي، التي لم تكن فقط صوتًا شجاعًا في وجه القمع، بل كانت أيضًا رمزًا للحب الكويري النقي. موت سارة لم يكن فقط فقدًا فرديًا، بل لحظة مشتركة في ذاكرة كل من قاوم بصمت، وكل من أحب ورفض أن يعتذر عن ذلك أو يشعر بالخجل والعار منه.

وفي يوم الخامس والعشرين من نفس الشهر، رحلت الفنانة التونسية الأيقونة غزالة، إحدى أبرز رموز الأداء الدراغ في شمال إفريقيا، عن عمر ناهز 79 عامًا. غزالة لم تكن فقط فنانة، بل صوتًا جماليًا وسياسيًا في آن واحد، وجودها الممتد في حياة أجيال كاملة من التوانسة الكوير كان ملاذًا، ومصدر إلهام، ودرسًا في الحضور الثابت.

بين رحيل سارة وغزالة، مساحة من الألم والجمال. مساحة نكتب فيها، من جديد، أن الكوير لا يموتون بصمت طالما نحن هنا لنروي.

لكل من رحل ولم يُرثَ كما يستحق

إلى الذين ماتوا كوير ولم تُكتب أسماءهم كاملة على جدراننا…

إلى الذين كانوا يحبون مثلنا، يرقصون بيننا، يكتبون لنا، ويسهرون معنا…
إلى الذين شاركونا الحب والحميمية والتواصل الصادق الحقيقي…

إلى الذين قاوموا يومًا بعد يوم حتى تعبوا…

نحن نراكم. نحن لا ننساكم. أنتم في ذاكرتنا، في أغانينا، في الأحلام التي تأتينا ليلاً، في الدعاء والصلوات، في القصائد والأفكار التي لم نجرؤ على نشرها بعد.

نحو مستقبل نرثي فيه أصدقاءنا كما كانوا

نحلم بعالم لا يُجبرنا على دفن أصدقائنا مرتين. نحلم بجنازة تُرفع فيها أعلام قوس قزح. نحلم بمرثية يُذكر فيها الحبيب، ويُقال فيها الاسم الذي اختاره لنفسه. نحلم ببكاء علني، دون خوف من السخرية أو التبليغ أو الطرد من الجنازة.

نحلم بيومٍ نقول فيه: “كان كويرًا، وكان حقيقيًا، وكان محبوبًا، ورحل قبل أوانه… ونحن لن ننساه.”

الكتابة كنجاة وطقس للوداع

ربما لا نستطيع أن نُغيّر الواقع الآن. لكن يمكننا أن نكتب. أن نُسمّي. أن نوثّق. أن نحزن كما نريد، لا كما يُطلب منا.

ورغم أننا لا نملك سلطة على الجنازات، إلا أننا نملك سلطة على الحروف.

لن نُشيّعهم رسميًا، لكننا نودّعهم بالنص. كل كلمة نكتبها اليوم، هي شمعة، هي وردة، هي عناق، هي قبلة، هي لمسة غائبة.

ولمن فقد صديقًا كويريًا ولم يستطع أن يقول كلمة وداع: أنت لست وحدك.

احزن. ابكِ. اكتب. تذكّر. قاوم.

فهذا الحزن الكويري، كما الحب الكويري… مقدّس، حتى لو أنكره الجميع.

كتابة: مجهول

شروط الاستخدام

محتوى أطياف مرخص برخصة المشاع الإبداعي. يسمح بإعادة نشر المواد بشرط الإشارة إلى المصدر بواسطة رابط تشعبي، وعدم إجراء تغييرات على النص، وعدم استخدامه لأغراض تجارية.