في قلب جنوب العراق، حيث يلامس النخيل ضفاف دجلة وتتمازج الأسطورة بالحقيقة، وُلد مسعود العمارتلي في محافظة ميسان
كي يكون احد من أكثر الشخصيات الغنائية فرادة في التاريخ العراقي والعربي الحديث. مسعود والذي أسموه عائلته “مسعودة” العمارتلي، أحد أوائل الفنانين الترانس في العراق والشرق الأوسط والعالم.
وُلد مسعود ما بين عامي 1898 و1901 في ناحية الكحلاء، وسط بيئة عشائرية صارمة وظروف معيشية شديدة القسوة. من هذه الخلفية الصعبة، خرج صوت سيكسر الصمت حول النوع الاجتماعي، وينسج سردية فنية ومجتمعية نادرة.
من رعي الأغنام إلى رمزية الرجولة
نشأ مسعود في بيت فقير، وعمل منذ صغره راعياً للأغنام لدى أحد الشيوخ. في الثامنة عشرة من عمره، تعرض لمحاولة تحرش من شابين، فقاومهما وربطهما واقتادهما إلى مجلس الشيخ، في حادثة غيّرت مجرى حياته.
من تلك اللحظة، قرر مسعود أن يتخلى عن مظهر الأنثى، ويرتدي زي الرجال: الدشداشة والعقال واليشماغ. لم يكن ذلك تمويهاً أو مجرّد تحدٍ، بل كان إعلاناً عن هوية متجذّرة في الوجدان.
الغناء كفعل تحرر ومقاومة
بصوتٍ ريفيٍ خالص، مشحون بعاطفة الجنوب وبحة الحقول، بدأ مسعود بالغناء في مقاهي العمارة -عاصمة محافظة ميسان والتي اتخذ منها اسمه الثاني- ومناسباتها.
لاحظ أحد منتجي التسجيلات صوته عام 1925، فاصطحبه إلى بغداد، حيث سجّل أولى أسطواناته. غنّى من ألحانه الخاصة، مستلهماً مفرداته من الحياة اليومية الريفية.
من أبرز أغانيه: “سودة شلهاني”، و”خدري الجاي خدري”، و”ذبي العباية”، و”بوية محمد”. أصبحت أغانيه لاحقاً من أساسيات التراث الغنائي العراقي.
غياب الصورة… حضور الأسطورة
رغم شهرته الواسعة، لا توجد صورة مؤكدة لوجه مسعود العمارتلي. وقد حاول الباحث جبار الجويبراوي في السبعينيات تركيب صورة مفترضة له بالاعتماد على أوصاف شفهية، وتم نشر هذه الصورة في مجلة “فنون” عام 1980.
لكن هذا الغياب المادي لصورته لم يُضعف من حضوره في المخيلة الشعبية، بل زاد من أسطوريته وغموضه.
ثنائية الصوت والجندر
كما ذكرت الكاتبة البريطانية دورين إنغرامز في كتابها Awakened Women in Iraq والذي صدر عام 1983، فقد سبقت مسعودة (الاسم القديم لمسعود) بحركتها الذاتية النسوية مسارات تحرير المرأة العالم المتأخر بنصف قرن.
كانت تغني بصوت رجل، لكن كلماتها خرجت من وجدان امرأة. هذه الثنائية الجندرية، بكل تعقيداتها، جعلت منها رمزاً لتحدي النظام الأبوي والقيود الاجتماعية ونمطية الجندر والهوية الجندرية والتعبير الجندري.
الحب، والفقد، والنهاية المأساوية
أحب مسعود نساءً أحببنه بدورهن، ويُقال إنه تزوج على الورق من اثنتين، إحداهن اكتشفت لاحقاً أنه ترانس، فدسّت له السم، بحسب روايات شعبية.
بينما تشير روايات أخرى إلى وفاته بمرض السلّ عام 1944. في كلا الحالتين، كانت نهاية مسعود مأساوية، كما هي نهايات كثير من الطلائع الذين يأتون قبل أوانهم ويتواجدون وسط أناس وعالم لا يفهمهم.
أثر لا يُمحى في الذاكرة الغنائية
سجّل مسعود ما يزيد عن عشرين أغنية لدى شركات تسجيل محلية وعالمية، وغنّى في بغداد وحلب إلى جانب أساطين الطرب وكباره، أبرزهم حضيري أبو عزيز.
وأعيد غناء أغانيه لاحقاً على يد فنانين وفنانات، مثل سليمة مراد. لم يكن صوته فقط ما طُبع في ذاكرة الناس، بل كانت تجربته الجندرية والفنية بأكملها علامة على كسر التقاليد وتحدي الأعراف المجتمعية القائمة في صراع البشر بينها وبين الحقيقة والهوية.
مسعود العمارتلي والإقصاء الرسمي رغم التأثير الشعبي
رغم أثره البارز، لم يلقَ مسعود العمارتلي اعترافاً رسميًا كافياً. لم تُخلّده الدولة العراقية أو الإعلام كما خُلِّد غيره من رموز الفن، بل بقي إرثه حيًّا عبر حكايات الناس، وبعض الدراسات والتوثيقات الأكاديمية.
وربما يرجع ذلك بشكل كبير إلى تجربته ورمزيتها في كونه رجل عاش رجولته بكل ما يشعره رغم وجوده داخل جسد أنثى، وإصراره على الحياة والإبداع والفنون، معبرًا عنه ذاته وهويته وحقيقته.
إرث متجدد يتجاوز التصنيف تركه مسعود العمارتلي
يُعتبر مسعود اليوم رمزاً للعبور، ليس فقط الجندري، بل الثقافي والاجتماعي والفني.
صوته كان وسيلة للبوح والمقاومة وإعادة تعريف الذات، في مجتمعٍ وعالم لا يرحم المختلفين.
وفي زمنٍ تتجدد فيه النقاشات حول الهوية، يبدو مسعود أكثر حضوراً من أي وقت مضى: صوت سابق لعصره، وصورة غائبة لكنها محفورة في وجدان وطن وفنون وتاريخ وتجربة فردية مختلة بأكملها.