منذ صدوره على نتفليكس عام 2022، اعتُبر مسلسل The Sandman خطوة فارقة في تمثيل مجتمع الميم على الشاشة.
المسلسل، المقتبس من الرواية المصوّرة الشهيرة لــ نيل غايمان، لم يقدّم مجرد شخصية مثلية أو ترانس كإضافة شكلية، بل صاغ عالماً غنياً بالشخصيات الكويرية، وجعلها جزءاً أساسياً من بنية السرد.
هذا ما جعله مختلفاً عن معظم الإنتاجات الفانتازية التي اكتفت غالباً بالإيحاءات والتمثيل السطحي.
لكن أهمية The Sandman لا تقتصر على سياق الترفيه الغربي؛ بالنسبة لمجتمع الميم الناطق بالعربية، الذي يعيش تحت رقابة وقوانين عقابية، شكّل المسلسل نافذة نادرة لتمثيل صادق وواسع، ولو عبر شاشة هاتف محمول باستخدام VPN أو روابط مقرصنة.
من الكوميكس إلى الشاشة: إرث غايمان الكويري
عندما بدأ غايمان كتابة The Sandmanفي أواخر الثمانينيات، كانت إدراج شخصيات مثلية وغير ثنائية الجندر خطوة جذرية . شخصية ديزاير (Desire)، مثلاً، التي تتحدى ثنائيات الجندر، أو قصص الحب المثلية التي ظهرت في نصوصه، كانت بمثابة ثورة صامتة في زمن اعتُبرت فيه هذه الهويات غير موجودة أو مُهمَّشة.
غايمان قال لاحقاً إنه كتب العالم كما رآه: مليئاً بالأصدقاء المثليين والكوير. استبعادهم كان ليعني تزييف الواقع. هذه الرؤية جعلت الكوميكس محبوبة من قراء كوير لعقود، ورسّخت مكانتها كعمل تقدمي.
نتفليكس، حينما تبنّت العمل، لم تكتفِ بنقل هذا الإرث، بل عمّقته، وقدّمت نسخة مشبعة بالتمثيل الكويري، ليس كزينة بل كقلب الحكاية.
شخصيات متعدّدة تعكس الطيف الكويري
في الموسم الأول وحده، قدّم المسلسل مجموعة واسعة من الشخصيات:
- الرغبة (Desire): غير ثنائي/ة، يجسّده/ا Mason Alexander Park، رمز للإغواء والسلطة في آن.
- جوهانا كونستانتين: المحققة الغامضة، تجسّدها Jenna Coleman في إعادة تخييل كويرية للشخصية الأصلية.
- أليكس بورغيس وبول: قصة حب مثلية هادئة تفتتح المسلسل.
- هال كارتر (Hal Carter): صاحب نُزُل وفنان دراغ كوين، نموذج للفرح الكويري.
- الكورينثيان (Corinthian): الكابوس المجرم الذي يحب الرجال، مثال على كسر الصورة النمطية لـ “المثلي الشرير”.
- لوكي (Loki) وباك (Puck). بعد أن هرب لوكي من سجنه، دخل في علاقة مع باك، ليتحوّلا معاً نوعاً ما إلى “آباء مثليين”
حتى في مشاهد فرعية، نجد شخصيات تعلن مثليتها أو تكتشف رغباتها. هذه الكثافة ليست “مبالغة”، كما يدّعي منتقدون محافظون، بل انعكاس لفلسفة النص: الكويرية ليست استثناءً، بل جزء طبيعي من طيف التجربة الإنسانية.
الكويرية كثيمة كبرى
المسلسل لا يقدّم الكويرية كخلفية، بل يدمجها في موضوعاته المركزية: الهوية، الرغبة، الأحلام، والمرونة. عالم The Sandman يرفض الثنائيات الجامدة، ويفتح المجال لتصوّر إنسانية أكثر مرونة.
هذا الطرح يكتسب أهمية خاصة لمشاهدي المنطقة، حيث تُفرض القوانين الصارمة والهويات الجامدة. في مواجهة واقع يقمع المرونة، يمنح المسلسل فرصة للتفكير في مستقبل بديل أكثر شمولاً.
استقبال عالمي وإقليمي متباين
الموسم الأول حظي باحتفاء نقدي واسع، واعتُبر “أحد أكثر المسلسلات شمولاً على نتفليكس”. لكن مع الموسم الثاني (2025)، تغيّر المشهد.
- انتقادات فنية: صحف مثل The Guardian وThe Independent وصفته بأنه “ممل”، “مفرط في الجدية”، و”حوار مسطح”. Irish Independent اعتبرته “بطيئاً ومليئاً بالثرثرة”.
- إشادة نسبية: The Telegraph رأت أنه ما زال “رائعاً” رغم ثقل الظلال.
جزء من خيبة الأمل ارتبط بالجدل المحيط بالكاتب نيل غايمان، المتهم بسلسلة من الاعتداءات الجنسية التي نفاها. هذه الاتهامات أضعفت صورة العمل، وأثارت سؤالاً صعباً: هل يمكن فصل الفن عن الفنان؟
ردود الفعل المحافظة: “كثير من المثليين”؟
منذ بداية عرضه، واجه المسلسل هجوماً من الأصوات المحافظة التي اعتبرت أنّ “كل شخصية ثانية في The Sandman مثلي أو كوير”. وُصِف بأنه “صحوة حقوقية” أو “أجندة تقدّمية”، ورأى البعض أن كثافة التمثيل تفقد العمل واقعيته.
لكن هذه الحجج تتجاهل السياق: الكوميكس الأصلي نفسه كان مليئاً بالشخصيات الكويرية قبل عقود.
ما تفعله نتفليكس هو ببساطة نقل النص بصدق إلى الشاشة، لا فرض “أجندة”. بل إن التمثيل الطبيعي والمتنوع يقدّم ما لم تقدّمه أعمال الخيال طويلاً: أن يرى الكوير أنفسهم في عوالم الحلم والفانتازيا، لا كاستثناء بل كقاعدة.
مجتمع الميم الناطق بالعربية: بين الرقابة والنجاة
في المنطقة العربية، يُتابَع The Sandman غالباً عبر وسائل غير رسمية بسبب الرقابة. ومع ذلك، انتشرت مقاطع ديزاير أو قصص الحب المثلية على وسائل التواصل كرموز صغيرة للانتصار.
المسلسل بالنسبة لهؤلاء المشاهدين ليس مجرد ترفيه، بل مساحة للبقاء الرمزي: يقدّم لهم اعترافاً بوجودهم، ويمنحهم لحظات نادرة من الانعكاس والتمكين.
الأحلام كمقاومة
مسلسل The Sandman هو أكثر من مسلسل: إنه حقل أحلام حيث تُعاد صياغة قواعد العالم. من خلال شخصياته الكويرية، ومن خلال لغته التي تحتفي بالسيولة والاختلاف، يذكّرنا بأنّ الكويرية ليست هامشية، بل مركزية للوجود الإنساني.
في زمن تتزايد فيه حملات الكراهية وإلغاء الأعمال الكويرية، يصبح The Sandman مساحة رمزية للمقاومة. بالنسبة لمجتمع الميم الناطق بالعربية، قد لا يغيّر المسلسل القوانين التي تجرّمهم، لكنه يمنحهم شيئاً لا يقل أهمية: القدرة على الحلم بعالم آخر، أكثر شمولاً وإنصافاً.
