في بلداننا، ما يزال النقاش حول الميول الجنسية محدودًا ومحاطًا بالخرافات والمغالطات. من بين هذه الهويات، تُعتبر ازدواجية الميول الجنسية والبايسكشوال واحدة من أكثر المفاهيم عرضة للتشويه أو الإنكار.
كثيرون يظنون أنها مجرد “مرحلة مؤقتة” أو “حالة من الحيرة”، بينما تشير الأبحاث العلمية إلى أنها هوية قائمة بذاتها موجودة عند ملايين الأشخاص حول العالم.
فهم ازدواجية الميول الجنسية والأفراد البايسكشوال ليس رفاهية، بل ضرورة لتعزيز الوعي، ومواجهة الوصم، وحماية الصحة النفسية. هذا المقال يُقدّم مدخلًا معرفيًا شاملًا حول كل ما يجب أن نعرفه عن هذه الهوية.
الميول الجنسية: إطار عام لفهم الموضوع
الميول الجنسية تصف الانجذاب العاطفي أو الرومانسي أو الجنسي الذي يشعر به الفرد تجاه الآخرين.
بالتالي، يمكن للشخص أن يكون مغايرًا، أو مثليًا، أو بايسكشوال، أو بانسكشوال، أو غير ذلك، وكل الميول الجنسية طبيعية ويولد بها الأشخاص ولا يمكن تغييرها بأي طريقة ممكنة.
من هم البايسكشوال؟
تعرّف جمعية علم النفس الأمريكية (APA) ازدواجية الميول الجنسية بأنها: “الانجذاب العاطفي والرومانسي و/أو الجنسي تجاه أكثر من جنس واحد.” كما أن الأفراد البايسكشوال لا ينجذبون للرجال والنساء بنفس الدرجة وليس بالضرورة في الوقت وبالطريقة نفسها.
هذا التعريف يوضح أن ازدواجية الميول الجنسية ليست نمطًا جامدًا، بل طيف واسع من التجارب. الانجذاب قد يختلف شدته واتجاهه مع مرور الوقت أو حسب السياق وحسب معرفة الشخص بنفسه وميوله وهويته، لكنه يظل جزءًا أصيلًا من هوية الشخص.
إحصائيًا، تُظهر بيانات مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) أن 5.5% من النساء و2% من الرجال في الولايات المتحدة عرّفوا أنفسهم على أنهم بايسكشوال، وهي نسبة تفوق بكثير من عرّفوا أنفسهم كمثليين أو مثليات.
ووفقًا لتقرير The Trevor Project، فإن ما يقارب 75% من الشباب الذين يعرّفون أنفسهم ضمن مجتمع الميم هم بايسكشوال.
وتؤكد منظمة Human Rights Campaign هذه الحقيقة، حيث تشير إلى أن نحو نصف مجتمع الميم على الأقل يعرّفون أنفسهم كبايسكشوال.
هذه الأرقام تعني أن ازدواجية الميول الجنسية ليست هوية هامشية كما يُتصوَّر غالبًا، بل هي الأكثر شيوعًا داخل مجتمع الميم.
ومع ذلك، تُظهر الدراسات أن احتياجات البايسكشوال الصحية والاجتماعية والنفسية غالبًا ما تُهمل أو تُتجاهل، مما يجعلهم أكثر عرضة للاكتئاب والعزلة والتمييز مقارنة بالمغايرين أو المثليين.
الخرافات الشائعة حول ازدواجية الميول الجنسية
“مجرد مرحلة مؤقتة”
كثير من الناس يظنون أن ازدواجية الميول الجنسية ليست هوية حقيقية، بل مجرد محطة انتقالية يمر بها الشخص قبل أن يقرر ما إذا كان مغايرًا أو مثليًا. لكن الحقيقة أن ملايين الأشخاص حول العالم يعيشون حياتهم كلها كـ بايسكشوال، دون أن “يتحولوا” لهوية أخرى. هذه الفكرة الخاطئة تجعل الناس يستخفون بتجارب البايسكشوال ويعتبرونها غير جدية، بينما هي في الواقع جزء طبيعي وثابت من التنوع البشري.
“مشوشون أو مترددون”
هناك اعتقاد شائع أن الشخص الذي ينجذب لأكثر من جنس لا يعرف “من هو” أو أنه متردد وغير قادر على تحديد هويته. لكن ازدواجية الميول الجنسية لا تعني الحيرة، بل تعني ببساطة أن الانجذاب الإنساني يمكن أن يكون متنوعًا ويشمل أكثر من جنس. مثلما يمكن أن يحب شخص أكثر من نوع موسيقى أو أكثر من لغة، يمكن أن يشعر بالانجذاب لأكثر من جنس. هذا لا ينفي وضوح هويته ولا يقلل من حقيقتها.
“أكثر خيانة من غيرهما”
يُتهم البايسكشوال بأنهم غير قادرين على الالتزام بشريك واحد، لأنهم ينجذبون لأكثر من جنس. هذه صورة نمطية غير صحيحة على الإطلاق. الخيانة ليست مرتبطة بالميول الجنسية، بل باختيار الفرد وسلوكه الشخصي. تمامًا كما أن المغاير يمكن أن يكون مخلصًا أو خائنًا، يمكن لبايسكشوال أن يعيش علاقة مستقرة ووفية، أو لا، مثل أي شخص آخر.
“العلاقة تلغي الهوية”
من أكثر المغالطات شيوعًا الاعتقاد بأن هوية بايسكشوال تتغير حسب شريكه الحالي. فإذا كان في علاقة مع امرأة يُفترض أنه “مغاير”، وإذا كان مع رجل يُفترض أنه “مثلي”. هذا خطأ شائع. الهوية لا تتحدد بالشريك الحالي، بل بالانجذاب العام الذي يشعر به الشخص. حتى لو كان في علاقة مع جنس واحد، فهذا لا يلغي حقيقة أنه ينجذب أيضًا لأجناس أخرى.
هذه الخرافات خطيرة لأنها تؤدي إلى:
- محو هوية البايسكشوال (Bi Erasure): إنكار وجود ازدواجية الميول الجنسية وأصحابها أو تجاهلهما وكأنهما غير موجودين.
- كراهية البايسكشوال/البايفوبيا (Biphobia): الكراهية أو الرفض أو التمييز ضد البايسكشوال، سواء عبر تعليقات جارحة مثل “إنت مش عارف نفسك” أو عبر إقصائهم من مساحات مجتمع الميم.
النتيجة أن البايسكشوال يشعرون أحيانًا أنهم غير مقبولين لا في المجتمع المغاير ولا حتى في مجتمع الميم، ما يزيد من الضغوط النفسية والعزلة المجتمعية.
ماذا عن الذين لم يحددوا بعد ما إذا كانوا بايسكشوال؟
ليس من الضروري أن يعرف الإنسان هويته الجنسية بشكل كامل أو نهائي منذ سن مبكرة. كثير من الناس يمرّون بمراحل من التساؤل والتجربة قبل أن يجدوا التسمية أو الهوية التي تعبر عنهم بدقة.
هذا لا يعني أنهم “مشوشون” أو أن ميولهم “غير حقيقية”، بل إن عملية الاستكشاف جزء طبيعي من رحلة أي شخص لفهم ذاته.
قد يشعر البعض بالانجذاب نحو أكثر من جنس، لكنهم لا يعرفون إن كان هذا يعني أنهم بايسكشوال. آخرون قد يختبرون الانجذاب بشكل مختلف مع مرور الوقت، أو يفضلون عدم استخدام أي تسمية على الإطلاق.
الدراسات الحديثة، مثل أبحاث The Trevor Project ومعهد كينسي (Kinsey Institute)، تشير إلى أن الهوية الجنسية قد تكون مرنة (Fluid)، وأن كثيرًا من الناس يكتشفون أنفسهم مع مرور السنوات.
النقطة الأهم هي:
- لا يوجد جدول زمني أو “اختبار نهائي” لتحديد الميول الجنسية.
- ليس مطلوبًا من أي شخص أن يضع نفسه في خانة واضحة إذا لم يكن مستعدًا لذلك.
- من الطبيعي أن يتطور الفهم الذاتي مع الوقت والتجارب.
وبالنسبة للعديد من الشباب في المنطقة، حيث قد يكون الحديث عن الميول الجنسية محاطًا بالصمت أو الرفض، فإن منح النفس وقتًا ومساحة للتفكير دون ضغط هو أمر بالغ الأهمية.
الصحة النفسية والتحديات بالأرقام للبايسكشوال
تشير الأبحاث إلى أن البايسكشوال يواجهون مستويات أعلى من الضغط النفسي مقارنة بالمغايرين أو المثليين:
- نصف الشباب البايسكشوال تقريبًا فكروا جديًا في الانتحار خلال السنة الماضية.
- 66% شعروا بالحزن أو اليأس لفترات طويلة (مقارنة بـ27% من المغايرين).
- 1 من كل 3 تعرّض للتنمر في المدرسة.
- 1 من كل 5 أُجبر على علاقة جنسية.
- النساء البايسكشوال أكثر عرضة للعنف الجنسي مقارنة بالمغايرات والمثليات.
هذه التحديات تُفسر بنظرية إجهاد الأقليات (Minority Stress): أي الضغوط الناتجة عن الوصم والتمييز الاجتماعي والثقافي تجاه الأقليات.
الرفض المزدوج للبايسكشوال: بين المجتمع المغاير ومجتمع الميم
من أبرز التحديات التي يواجهها الأفراد البايسكشوال أنهم كثيرًا ما يتعرضون لما يُعرف بـ الرفض المزدوج؛ أي التهميش من المجتمع المغاير من جهة، ومن بعض أفراد مجتمع الميم من جهة أخرى.
- في المجتمع المغاير: يميل كثير من الناس إلى إنكار ازدواجية الميول الجنسية، ويعتبرونها مجرد “مرحلة عابرة” أو “نزوة”. فقد يُقال لشخص ما: “في النهاية ستتزوج من رجل، إذن أنتِ مغايرة”، أو “هذه فترة تجارب وستمر”. مثل هذه العبارات تمحو الهوية وتُضعف من حقيقتها، بجانب الثقافة المجتمعية الكارهة لأي علاقات مثلية.
- في مجتمع الميم: ينظر بعض المثليين والمثليات إلى ازدواجية الميول الجنسية باعتبارها تهديدًا أو شكلًا من أشكال “الخيانة”. فإذا كان الشخص بايسكشوال في علاقة مغايرة، قد يُتّهم بأنه “يهرب من حقيقته” أو “يستفيد من امتيازات المغايرين”. وإذا كان في علاقة مثلية، قد يُقال له إنه “لم يحسم أمره بعد”. غير أن بعض الأفراد يعممون تجاربهم السيئة مع أشخاص بايسكشوال على كل الأفراد البايسكشوال وينظرون إليهم على أنهم جميعًا “خائنون” وغير ملتزمين في العلاقات العاطفية، وأنهم في النهاية سوف يستسلمون إلى ضغط المجتمع ويتزوجون زواجًا مغايرًا.
هذا النوع من الرفض المزدوج يترك أثرًا نفسيًا عميقًا، إذ:
- يجعل الأفراد البايسكشوال يشعرون أنهم غير مرحب بهم في أي مكان.
- يعزز مشاعر العزلة والوحدة.
- يضاعف معدلات القلق والاكتئاب مقارنة بغيرهم من أفراد مجتمع الميم.
وتشير الدراسات إلى أن معدلات التفكير في الانتحار ومحاولاته أعلى بين الأفراد البايسكشوال مقارنة بالمثليين والمغايرين. السبب لا يكمن في الهوية نفسها، بل في الوصم والتمييز المستمر من كلا الجانبين.
لماذا الدعم مهم للبايسكشوال؟
بالنسبة لكثير من البايسكشوال، كما هو الحال مع أغلب أفراد مجتمع الميم، يظل التصريح بالهوية أو مشاركة الميول مع الآخرين أمرًا صعبًا أو مستحيلًا في كثير من الأحيان، بسبب الخوف من الرفض، فقدان العلاقات، أو حتى التعرض للعنف. هذا الإخفاء القسري يزيد من مشاعر العزلة والضغط النفسي.
لذلك، يصبح الدعم غير المشروط ضروريًا:
- من العائلة والأصدقاء: حتى وإن لم يصرّح الفرد بهويته بوضوح، فإن وجود بيئة متفهمة تحترم التنوع وتبتعد عن الأحكام المسبقة يخفف من مستويات القلق والاكتئاب.
- في الإعلام والتمثيل الثقافي: رؤية شخصيات بايسكشوال أو متنوعة الميول الجنسية في الأفلام والمسلسلات والكتب تعطي إشارة قوية بأن هذه الهويات موجودة وحقيقية، وتفتح المجال لتطبيع وجودها اجتماعيًا.
- من الموارد المجتمعية والتنظيمات: تقدم منظمات كويرية عديدة موارد ودعمًا ملموسًا، سواء عبر الاستماع أو توفير مساحات أكثر أمانًا، وهو ما قد يكون المنفذ الوحيد للكثيرين في مجتمعات تُجرّم أو تهمش وجودهم.
الدعم هنا لا يعني فقط تقديم المساعدة عند الطلب، بل خلق ثقافة اجتماعية أوسع تحترم التنوع وتترك مساحة للأفراد ليكونوا أنفسهم دون خوف.
ازدواجية الميول الجنسية ليست مرحلة ولا حيرة، بل هوية إنسانية حقيقية وطبيعية. الاعتراف بها وتفكيك الخرافات حولها يُساهم في بناء مجتمعات أكثر عدلًا وتقبّلًا.
في بلداننا، حيث يضعف الوعي عن الجنسانية وتنتشر المغالطات، يصبح نشر المعرفة مسؤولية أخلاقية وثقافية. بالعلم، والوعي، والدعم، يمكن أن نصنع مستقبلًا يشعر فيه كل شخص – سواء كان بايسكشوال أو من أي هوية أخرى – بالأمان والفخر بهويته.