في السنوات الأخيرة، تزايد حضور السينما الكويرية في المهرجانات والمنصات العالمية، ومعها ارتفعت الأصوات التي تطالب بتمثيل أوسع وأكثر صدقًا لمجتمع الميم على الشاشة.
في هذا السياق، يقدّم فيلم «Honey Don’t!» (لا يا هوني!) الصادر عام 2025 تجربة جديدة من توقيع المخرج إيثان كوين، أحد الشقيقين اللذين شكلا مدرسة خاصة في السينما الأمريكية.
هذه المرة، لا يكتفي كوين باللعب على التقاليد السينمائية المعروفة، بل يضع بطلة مثلية في قلب حبكة بوليسية/غموضية على الطريقة النوارية.
قبل الدخول في تفاصيل الفيلم، من المهم توضيح معنى كلمة «نوار» (Noir). هذا المصطلح فرنسي الأصل يعني «الأسود»، ويُستخدم في النقد السينمائي لوصف نوع من الأفلام البوليسية التي انتشرت منذ أربعينيات القرن الماضي، تتميز بأجواء قاتمة، وشخصيات معقدة أخلاقيًا، واستخدام الظلال والإضاءة القاسية للتعبير عن الانحطاط والفساد.
«النوار» ليس مجرد أسلوب بصري، بل فلسفة عن العالم كفضاء مشوّه، حيث الخير والشر متداخلان.
فيلم «Honey Don’t!» يتبنى هذا القالب، لكنه يقلب بعض تقاليده عبر إدخال بطلة نسوية مثلية تقود السرد، بدل الرجل الصارم التقليدي.
لمحة عامة عن فيلم Honey Don’t (دون حرق أحداث)
أطلق المخرج الأمريكي إيثان كوين عام 2025 أحدث أعماله المستقلة بعنوان Honey Don’t!، الذي كتبه بالمشاركة مع زوجته والمحررة السينمائية المخضرمة تريشا كوك.
الفيلم يجمع على الشاشة طاقمًا لافتًا يتقدمه مارغريت كوالي في دور المحققة الخاصة هوني أودوناهيو، وإلى جانبها أوبري بلازا بدور الشرطية الغامضة MG، فيما يظهر كريس إيفانز في صورة مغايرة تمامًا لما اعتاده جمهوره، متجسدًا دور القس الفاسد درو ديفلين، ويكمل المشهد تشارلي داي في دور المحقق الساذج.

تبدأ الحكاية بحادث سيارة يبدو عابرًا، لكن نظرة هوني الثاقبة تكشف خيوطًا مظلمة تربط الحادث بكنيسة مشبوهة يقودها قس كاريزمي يستغل أتباعه. تتقاطع هذه القضية مع حياة هوني الشخصية، إذ تحاول إنقاذ ابنة أختها من علاقة مسيئة، بينما تنخرط في علاقة عاطفية متوترة مع زميلتها الشرطية MG، ما يضيف بعدًا شخصيًا إلى مسار التحقيق.
أسلوب «Honey Don’t!» يمزج بين النوار الكلاسيكي والكوميديا السوداء، مع جرعة من العبث تجعل الفيلم أقرب إلى تجربة بصرية جريئة منه إلى بوليسي تقليدي. بمدته التي لا تتجاوز 89 دقيقة، وبطرحه الرقمي المصحوب بترجمة عربية، يصل الفيلم مباشرة إلى جمهور عالمي، بما في ذلك المشاهد العربي الذي نادرًا ما تُتاح له فرصة متابعة أعمال كويرية بهذه الصراحة على منصات متاحة.
ثيمات وتمثيل كويري واضح
أبرز ما يميز «Honey Don’t!» هو التركيز على النساء المثليات بوصفهن هوية مركزية للبطلة. هوني شخصية قوية لا تخفي ميولها الجنسية، بل تؤكدها علنًا حتى في مواجهة زملاء يتجاهلون حقيقتها.

هذا الوضوح يجعلها مختلفة عن معظم شخصيات النوار الكلاسيكية، حيث غالبًا ما تكون المرأة مجرد «فاتنة غامضة». هنا، البطلة هي المحققة، وليست موضوع الرغبة أو التحقيق.
العلاقة بين هوني وMG تمثل محورًا أساسيًا، فهي علاقة جسدية وصريحة، تُعرض بجرأة نادرة في السينما السائدة. هذه العلاقة تمنح الفيلم بعدًا إنسانيًا وكويريًا، حيث تتداخل الرغبة مع التوتر النفسي والمهوني.

كذلك، يقدّم الفيلم نقدًا لاذعًا للنفاق الديني عبر شخصية القس درو، الذي يستخدم سلطته الروحية كغطاء لممارساته الفاسدة. هذه الثيمة تعكس ازدواجية مؤسسات تدّعي الأخلاق بينما تمارس الاستغلال.

وفي هذا السياق، تصبح المقارنة مع أفلام أخرى ضرورية لفهم موقع «Honey Don’t!» داخل سينما المثليات: «Drive-Away Dolls» (2024) مثلًا، وهو من إخراج إيثان كوين نفسه، يُعد الامتداد المباشر لهذا المسار حيث لعبت مارغريت كوالي أيضًا دور امرأة مثلية، ما يجعلنا نرى التطور من كوميديا صاخبة إلى نوار أكثر قتامة.
أما «The Handmaiden» (2016) فيُعتبر واحدًا من أشهر أفلام المثليات عالميًا، ويقدّم علاقة رومانسية مثالية وجمالية شاعرية، في مقابل «Honey Don’t!» الذي يطرح علاقة مركبة مليئة بالصراع والحدة.
هذا التباين يضفي صدقية ويجعل التمثيل الكويري بعيدًا عن المثالية، أقرب إلى الواقع حيث الحب قد يكون معقدًا بقدر ما هو جميل.
النقد الفني: الصورة، والإخراج، والأداء
الفيلم يتميز بصريًا بفضل مديرة التصوير آري وِجنر، التي اختارت لوحة ألوان باهتة تشبه بطاقات بريدية قديمة، ما يعكس تدهور المدينة والفساد الكامن فيها.
الأزياء من تصميم بيغي شناتزر تضيف طابعًا «ريترو–شيك» متناقضًا مع واقع الشخصيات البائس. موسيقى كارتر بورويل، المتعاون الدائم مع الأخوين كوين، تمنح الفيلم إيقاعًا يجمع بين النوار والكوميديا السوداء.
مارغريت كوالي تبرع في تجسيد شخصية هوني، تجمع بين جاذبية «الفيم فاتال» (Femme Fatale) – أي المرأة الغامضة والفاتنة التي تستغل سحرها لإيقاع الآخرين في الفخاخ – الكلاسيكية وصلابة المحقق الهارد-بويلد. حضورها على الشاشة يوازن بين القوة والسخرية، ويجعلها مركز الجاذبية في الفيلم.
أوبري بلازا تقدم أداءً مقنعًا في دور الشرطية MG، تضفي على العلاقة بينهما طاقة كيميائية قوية. أما كريس إيفانز، فقدّم دور القس الفاسد بكاريكاتورية مقصودة، ربما مبالغ فيها، لكنها تضيف لمسة كوميدية قاتمة.
نقطة الضعف الأبرز في الفيلم تكمن في تشتت السرد. هناك العديد من الشخصيات الجانبية والخيوط السردية التي لا تندمج تمامًا في حبكة واحدة متماسكة.
هذا قد يربك المشاهد الباحث عن قصة بوليسية دقيقة، لكنه يضيف في الوقت نفسه طبقات من العبث والغرابة التي اعتادها جمهور الأخوين كوين.
لماذا يهم هذا الفيلم؟
أهمية «Honey Don’t!» لا تأتي من حبكته المحكمة بقدر ما تأتي من كونه فيلمًا مثليًا يعيد تعريف النوار. إنه يفتح الباب أمام حضور كويري صريح، ويمنح المشاهد فرصة لرؤية بطلة مثلية تقود الأحداث بثقة وتمرّد.
الفيلم متاح رقميًا مع ترجمة عربية، وهو ما يتيح لجمهور العالم العربي فرصة نادرة لمتابعته ومناقشته.
باختصار، قد لا يكون «Honey Don’t!» تحفة نوار كلاسيكية، لكنه عمل جريء يوسّع حدود التمثيل ويمنح مجتمع الميم في السينما مساحة جديدة على الشاشة الكبيرة.