في إنجاز أدبي استثنائي، فازت رواية “مشقّة المساء” (The Discomfort of Evening) للكاتب/ة الهولندي/ة مزدوج/ة الهوية الجندرية ماريكه لوكاس رينفيلد بجائزة البوكر الدولية لعام 2020، لتُصبح أصغر الفائزين في تاريخ الجائزة وأكثرهم إثارة للجدل والتأمل في آنٍ معًا.
جائزة البوكر الدولية والاعتراف بالأدب الكويري
تُعد جائزة البوكر الدولية من أبرز الجوائز الأدبية العالمية التي تحتفي بالأدب المُترجم إلى اللغة الإنجليزية، وتُمنح مناصفة بين المؤلف والمترجم. وقد جذبت دورة هذا العام الأنظار، ليس فقط لقوة النصوص المرشحة، بل أيضًا لكون الجائزة مُنحت لرواية كتبها مؤلف/ة كويري/ة يستخدمون ضمير الجمع “هم/هم” في التعبير عن هويتهم الجندرية غير الثنائية (non-binary).
ماريكه لوكاس رينفيلد، المولود/ة عام 1991 في قرية هولندية صغيرة جنوب العاصمة أمستردام، يعمل/ون في مزرعة للأبقار ويكتبون الشعر والرواية. هذه الخلفية الريفية تنعكس بوضوح في روايتهم الأولى “مشقّة المساء”، التي صدرت في نسختها الإنجليزية عن دار Faber & Faber بترجمة ميشيل هتشيسون.
“مشقة المساء”: رواية عن الفقد والعزلة
الرواية تتناول قصة فتاة صغيرة تعاني من الحزن والانهيار بعد وفاة شقيقها في حادث مأسوي. وتستعرض الكاتبة/الكاتب من خلال اللغة الشعرية والحوار الداخلي المُكثّف، رحلة الانغلاق النفسي والعاطفي داخل عائلة ترفض التعبير عن الحزن أو التعامل مع الألم. وُصفت الرواية بأنها “سوداويّة بعمق”، و”تأمل قاسٍ في ما يعنيه أن تكون محاصرًا بالعزلة والانهيار داخل مجتمع مغلق ومحافظ”.
رغم أنها ليست رواية كويرية صريحة في موضوعها، إلا أن البعد الجندري حاضر بعمق في اللغة والأسلوب، وهو ما أضفى على العمل طابعًا فريدًا يتحدى النماذج التقليدية للسرد والهُوية.
هوية غير ثنائية في عالم أدبي تقليدي
أثار فوز رينفيلد بالجائزة نقاشًا واسعًا في الأوساط الأدبية حول التمثيل الكويري في الأدب العالمي، خاصة من قبل كتّاب وكتّابات لا يندرجون ضمن الثنائية الجندرية الذكورية/الأنثوية. وقد صرّحت/صرّح رينفيلد بأن الكتابة بالنسبة لهم/ن “وسيلة لفهم الذات والعالم”، مشيرين إلى أن “أجسادنا ليست بالضرورة المكان الوحيد الذي نعيش فيه”.
هذا الفوز التاريخي ليس فقط اعترافًا بالقيمة الأدبية للرواية، بل أيضًا خطوة مهمة تجاه دمج الأصوات المتنوعة جندريًا داخل الساحة الثقافية الدولية.
احتفاء عالمي… وتحديات قائمة
لاقى فوز “مشقّة المساء” ترحيبًا واسعًا من النقاد والجمهور، واعتُبر لحظة فارقة في تاريخ الجائزة. وقالت لجنة التحكيم إن الرواية تمثل “صوتًا جديدًا مذهلًا ومؤلمًا في آن”، في حين أشار متابعون إلى أن منح الجائزة لمؤلف/ة غير ثنائي/ة الهوية يُعدّ رسالة دعم ضمنية للكتاب/الكاتبات الكوير في مواجهة التهميش العالمي.
في المقابل، لا تزال الشخصيات الكويرية والأصوات غير الثنائية تواجه تحديات جمّة في العديد من السياقات الثقافية، حيث يُنظر إلى الهوية الجندرية باعتبارها تهديدًا للقيم “التقليدية”. وتسلّط رواية رينفيلد الضوء على هذه التوترات من خلال قصة إنسانية تمسّ الكل، بغض النظر عن الهُوية.
الأدب الكويري في قلب المشهد العالمي
رواية “مشقّة المساء” ليست مجرد عمل أدبي متقن، بل هي بيان وجودي عميق عن الحزن، والانفصال، والبحث عن الذات. وفوزها بالجائزة يعكس تغيّرًا في طبيعة الأدب العالمي، حيث باتت المساحات تُفتح تدريجيًا أمام أصوات لم تكن تُسمع سابقًا.
ومع تزايد الإقبال على الروايات التي تُعبّر عن تجارب الكوير والمهمشين، يتّضح أن جمهور الأدب الحديث لم يعد يبحث فقط عن القصص، بل عن الحقيقة الإنسانية بمختلف وجوهها.