في تصويت وصفه كثيرون بالتاريخي، أقرّ البرلمان الهولندي قانونًا يجرّم ما يُعرف بـ “العلاج التحويلي”، وهي الممارسات التي تهدف إلى تغيير الميول الجنسية أو الهوية الجندرية للأفراد. القرار جاء بعد سنوات من النقاش والاعتراضات، لاسيما من بعض الأحزاب المسيحية التي اعتبرت أن القانون قد يهدد حرية الدين. غير أن الضغط الشعبي والحقوقي الواسع، إلى جانب التوافق على صياغة دقيقة، مهّد الطريق أمام التصويت الإيجابي.
القانون الجديد ينصّ على أن العقوبة تطبّق فقط على الحالات التي يُمارس فيها العلاج التحويلي بشكل منظّم وتحت ضغط نفسي شديد، ما يعني أن المحادثات الفردية غير القسرية، مثل النصائح الروحية، تبقى خارج نطاق التجريم. لكنه يحظر بشكل صريح الممارسات العنيفة والمهينة مثل جلسات الصدمات الكهربائية أو ما يُسمى بـ “الشفاء بالإيمان”.
النقاش البرلماني حمل مواقف متباينة. فقد قالت النائبة ويكه باولوسما من حزب الديمقراطيين 66: “الحب لا يحتاج إلى علاج”، مؤكدة أن القانون يهدف إلى حماية الأشخاص من ممارسات تدمّر صحتهم وسلامتهم. أما بِنته بيكر من الحزب الليبرالي فاعتبرت أن “من غير المقبول أن يحاول أحد أن يعالجك من ميولك الجنسية بالصلاة أو حتى بالضرب”. في المقابل، أعربت أحزاب بروتستانتية محافظة مثل ChristenUnie وSGP عن أسفها، معتبرة أن القانون يترك مساحة غامضة في تعريف حدود المحادثات الدينية.
التحوّل الأبرز كان في موقف الحزب الديمقراطي المسيحي (CDA) الذي كان معارضًا في البداية ثم صوّت لصالح المشروع بعد ضمان أن المحادثات الرعوية غير القسرية لن تُجرَّم.
كيف مُرر القانون رغم سيطرة اليمين المتطرف على البرلمان؟
منذ انتخابات نوفمبر 2023، تعيش هولندا تحوّلًا سياسيًا نحو اليمين. فقد أصبح حزب الحرية (PVV) بقيادة خيرت ڤيلدرز أكبر قوة برلمانية بـ37 مقعدًا، وهو حزب يميني متطرف اشتهر بخطابه المعادي للمهاجرين والإسلام. إلى جانبه، يشارك في الائتلاف الحاكم كل من حزب الشعب للحرية والديمقراطية (VVD) الليبرالي–اليميني، وحزب العقد الاجتماعي الجديد (NSC) المحافظ الوسطي، وحركة الفلاح–المواطن (BBB) ذات الطابع الشعبوي الريفي. هذا التحالف، المعروف بـ حكومة شوف (Schoof cabinet) منذ يوليو 2024، رسّخ ميل البرلمان إلى اليمين في القضايا الاجتماعية والثقافية، بما في ذلك ملفات الهوية والدين. في مثل هذا المناخ، كان يُتوقع أن يواجه أي قانون يعزز حقوق مجتمع الميم عقبات كبيرة.
ومع ذلك، نجح مشروع حظر العلاج التحويلي في حصد أغلبية الأصوات بفضل صياغة توافقية دقيقة. فالأحزاب المحافظة التي كانت مترددة، مثل الحزب الديمقراطي المسيحي، اطمأنت بعد إدخال تعديلات حددت بوضوح أن العقوبة ستطال فقط الممارسات القسرية والتدخلية – كجلسات الصدمات الكهربائية أو “الشفاء بالإيمان” – بينما لا تشمل الحوارات الدينية أو النصائح الروحية. هذا التوازن ساعد على بناء إجماع أوسع حول القانون.
إلى جانب ذلك، لعبت شهادات الضحايا وضغط المجتمع المدني دورًا محوريًا. فقد قادت منظمة COC Nederland، أقدم منظمة كويرية في هولندا وإحدى أقدم المنظمات في العالم، حملة واسعة للتعريف بمخاطر العلاج التحويلي، مؤكدة أنه يخلّف أضرارًا نفسية وجسدية طويلة الأمد، وأنه لا يستند إلى أي أساس علمي. ووصفته بعد التصويت بأنه “انتصار عظيم”، مشيرة إلى أن الضحايا الذين تعرضوا لهذه الممارسات وجدوا أخيرًا اعترافًا بأن المشكلة لم تكن فيهم بل في الانتهاكات التي فرضت عليهم.
ومع وجود إجماع طبي عالمي – من منظمة الصحة العالمية والجمعية الأمريكية لعلم النفس والرابطة العالمية للطب النفسي – أصبح من الصعب على البرلمان، حتى بتركيبته اليمينية، أن يتجاهل حجم الضرر. هكذا لم يُقدَّم القانون كصدام مع الدين أو حرية المعتقد، بل كإجراء لحماية الصحة العامة وصون الكرامة الإنسانية. هذا الإطار جعل من الممكن تحقيق أغلبية غير متوقعة، وأثبت أن حتى برلمانات تميل إلى التشدد يمكن أن تُقرّ قوانين تُنصف مجتمع الميم حين يتوافر التوازن بين السياسة والإنسانية.
العلاج التحويلي بين الإدانة العلمية والحظر القانوني
العلاج التحويلي، أو ما يُسمى أحيانًا بـ “التعافي من المثلية أو اضطراب الهوية الجنسية”، هو مجموعة ممارسات تدّعي إمكانية تغيير الميول الجنسية أو الهوية الجندرية، سواء عبر استشارات نفسية زائفة أو ضغط ديني واجتماعي أو حتى إجراءات قسرية مثل الصدمات الكهربائية والاعتداء الجسدي. وقد أدانته كبرى الهيئات الطبية والحقوقية منذ سنوات. منظمة الصحة العالمية، الجمعية الأمريكية لعلم النفس، الرابطة العالمية للطب النفسي، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان جميعها أكدت أنه مضرّ، غير فعّال، ويشكّل تهديدًا للصحة النفسية والجسدية.
هذا الإجماع العلمي انعكس تدريجيًا في التشريعات. فإلى جانب الخطوة الأخيرة في هولندا، سنت دول مثل مالطا، ألمانيا، فرنسا، كندا، إسبانيا، البرتغال، النرويج، آيسلندا، بلجيكا، قبرص، نيوزيلندا والمكسيك قوانين تحظر العلاج التحويلي بشكل شامل، فيما فرضت دول أخرى حظرًا جزئيًا على القاصرين أو ضمن المؤسسات الطبية، مثل البرازيل والهند وتايوان. أما البرلمان الأوروبي، فقد شدد في تقاريره الأخيرة على أن هذه الممارسات تترك آثارًا خطيرة، بدءًا من الاكتئاب واضطرابات القلق وصولًا إلى الأفكار الانتحارية، داعيًا الدول الأعضاء إلى تبني حظر واضح وصارم.
إدراج هذه الممارسات تحت طائلة القانون يؤكد أن الهوية الجنسية والجندرية ليست مرضًا يحتاج إلى “تصحيح”، بل حقّ إنساني أصيل يجب حمايته. وبذلك يصبح الحظر الهولندي حلقة جديدة في مسار عالمي متسارع يضع كرامة الأفراد وسلامتهم فوق أي ممارسة تزعم تغيير ما ليس عِلّةً من الأساس.
القانون الهولندي لا يُعتبر نهاية الطريق، بل بداية لسلسلة من التحديات. فالخطوة المقبلة هي موافقة مجلس الشيوخ قبل أن يصبح نافذًا. لكن الأهم أن هذه الخطوة تبعث برسالة واضحة: أن العلاج التحويلي ليس خيارًا مشروعًا، بل ممارسة عنيفة وغير أخلاقية يجب وضع حد لها. وبينما تتردد أصوات الضحايا في هولندا والعالم معلنة ارتياحها، يبقى السؤال قائمًا: متى ستحذو باقي الدول حذو هذه الخطوة لحماية مواطنيها من خطر لا يقلّ فتكًا عن أي شكل من أشكال العنف الأسري أو المجتمعي؟