مثليون

مثليون في الخفاء… كارهون في العلن: هل يجب فضح النفاق؟

في نهاية عام 2020، وبينما كانت أوروبا ما تزال تحت قيود صارمة بسبب جائحة كوفيد-19، انفجرت فضيحة مدوّية بعد ضبط النائب المجري جوزيف سايير في العاصمة البلجيكية بروكسل وهو يحاول الهروب من حفلة جنسية جماعية مع 20 رجلاً داهمتها الشرطة.

سايير لم يكن مجرد نائب عادي، بل أحد مؤسسي حزب فيدس الحاكم منذ 2010 وحتى اليوم في المجر، الحزب الذي يقوده رئيس الوزراء فيكتور أوربان ويشتهر بخطابه الشعبوي والمحافظ ومعاداته لحقوق المثليين ومجتمع الميم.

الصدمة لم تكن فقط لأنه خرق قوانين الإغلاق المفروضة آنذاك، بل لأن سايير نفسه لعب دورًا محوريًا في صياغة دستور المجر الذي عرّف الزواج حصريًا بين رجل وامرأة، بهدف قطع الطرق على أي محاولة مستقبلية لتشريع زواج المثليين، بجانب دعم تشريعات تحظر تبنّي الأطفال من قِبل الأزواج المثليين. بمعنى آخر، كان السياسي الذي كرّس مسيرته للدفاع عن “القيم الأسرية التقليدية” يعيش في السر ما يهاجمه في العلن.

لكن سايير ليس حالة استثنائية. فقد سقط سياسيون، وصحافيون، وشخصيات عامة، ومؤثرون على وسائل التواصل الاجتماعي وحتى أشخاص عاديون نعرفهم في التناقض نفسه عبر التاريخ الحديث: يعيشون حياتهم كجزء من مجتمع المثليين ومجتمع الميم في السر، بينما يهاجمونه في العلن بخطابات وتعليقات تحرض على الكراهية والعنف ضد المثليين ومجتمع الميم.

تُثير هذه الازدواجية أسئلة أخلاقية عميقة: هل يحق لنا فضح هذه التناقضات باعتبارها نفاقًا عامًّا يضر بالمثليين ومجتمع الميم؟ أم أن الخصوصية تظل خطًا أحمر حتى حين يستخدمها البعض كسلاح لإخفاء ازدواجيتهم؟

من العيش في السر إلى الفضيحة: سياق تاريخي

في مجتمعات كثيرة، يكون المثليون والكويريون مجبرين على العيش في سرية دائمة، خوفًا من العقاب القانوني أو العنف المجتمعي أو النبذ الأسري. وبالنسبة لكثيرين، تظل هذه السرية واقعًا لا مفر منه حتى الموت.

لكن هذه المأساة التي فُرضت على أجيال كاملة من المثليين وأفراد مجتمع الميم تحولت لدى بعض الشخصيات العامة وحتى العادية إلى أداة نفاق: يستفيدون من السرية التي تحميهم، وفي الوقت نفسه يروّجون علنًا لخطاب الكراهية، أو يدعمون آراء وشخصيات وقوانين تؤجّج العنف ضد من يشاركونهم الهوية نفسها. هنا لا يصبح الأمر مجرد خيار شخصي للعيش في الظل، بل سلوك عام يفاقم القمع ويبرّره.

على مدى العقود الماضية، تكررت حالات لشخصيات عامة هاجمت المثليين وحقوق مجتمع الميم، بينما كانت تخفي حياتها المثلية والكويرية بعيدًا عن الأضواء. وحين انكشفت التناقضات، تحولت إلى فضائح مدوّية هزّت السياسة والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وحتى بين الدوائر المحدودة وكشفت عن نفاق مؤسسي ومجتمعي عميق.

في الولايات المتحدة، واجه السيناتور الجمهوري لاري كريغ عام 2007 فضيحة كبرى بعد توقيفه في مطار مينابوليس إثر ممارسة الجنس مع رجل آخر داخل مرحاض عام، رغم أنه كان معروفًا بتأييده قوانين معادية لحقوق المثليين ومجتمع الميم.

وفي عام 2010، اعترف كين ميلمان، مدير حملة جورج بوش الانتخابية عام 2004، بمثليته بعد سنوات من قيادة سياسات انتخابية استخدمت العداء لزواج المثليين لكسب التأييد.

لا تنتهي القائمة هنا. في كاليفورنيا، صوّت السيناتور الجمهوري روي آشبورن مرارًا ضد قوانين تدعم حقوق المثليين ومجتمع الميم، قبل أن يعلن للجميع مثليته عام 2010 ويعترف بتناقضه.

أما القس الإنجيلي الشهير تِد هاغارد، أحد أبرز الأصوات المناهضة لزواج المثليين، فقد سقط عام 2006 بعد كشف علاقته الجنسية مع رجل آخر.

وفي 2010، تصدّر اسم جورج ريكرز، الباحث المحافظ الذي استُدعي للإدلاء بشهادات ضد تبنّي الأزواج المثليين للأطفال، عناوين الأخبار بعد أن كُشف سفره مع عامل بالجنس التجاري، حجز خدماته من موقع “RentBoy”.

الأمثلة الأوروبية كانت بنفس الصدى. بجانب فضيحة النائب المجري البارز جوزيف سايير. ففي بريطانيا، أثارت الصحافة مرارًا شبهات حول برلمانيين ومسؤولين محافِظين يُعرف عنهم اتخاذ مواقف معادية للمثليين ومجتمع الميم في العلن، بينما تلاحقهم تسريبات أو شائعات عن علاقات سرية مع رجال.

وفي إيطاليا وألمانيا، وُثّقت حالات لسياسيين وأصحاب نفوذ كَنَسِي يرفعون شعار “القيم التقليدية”، ثم تكشف الصحف كونهم على علاقات عاطفية وجنسية مع رجال آخرين.

هذه الحوادث لم تكن مجرد فضائح شخصية، بل عكست كيف يمكن أن يتحول خطاب “الأخلاق” و”القيم” و”العادات والتقاليد” إلى غطاء يُستخدم في صراعات السلطة الدينية والسياسية وغيرها، والصورة المجتمعية البارزة، فيما يعيش أصحابها نقيضها في الخفاء.

حتى الإعلام لم يسلم من هذا التناقض. فقد وثّق الفيلم الوثائقي الأميركي Outrage (2009) ظاهرة السياسيين الذين يهاجمون المثليين ومجتمع الميم علنًا بينما يعيشون في الخفاء كجزء من المجتمع نفسه، وينخرطون في علاقات عاطفية وجنسية وينعمون بحياة مثل كل الناس، مسلطًا الضوء على تواطؤ وسائل الإعلام في التستر على هذه الازدواجية والنفاق.

ولا يختلف المشهد كثيرًا في بلدان ناطقة بالعربية، حيث تتكرّر مظاهر التناقض نفسها. فبينما يروّج بعض الأطباء البارزين لـ العلاج التحويلي و”التعافي من المثلية” ويدّعون أنه “طريق الخلاص” من المثلية، تنتشر شهادات وروايات في الأوساط المثلية والكويرية تشير إلى أن بعض هؤلاء الأطباء أنفسهم يعيشون حياة مزدوجة، وأنهم مثليون في السر، بجانب ممثلين وشخصيات عامة صرحت برفضها حقوق المثليين ومجتمع الميم وحرضت على الكراهية والعنف.

هذه القصص، المتداولة في صيغ شائعات وأحيانًا شهادات مباشرة، لمن جمعهم لقاء عاطفي أو جنسي بهؤلاء الأشخاص، تكشف أن النفاق ليس حكرًا على السياسيين في الغرب، بل يمتد إلى مؤسسات وأوساط طبية وفنية وإعلامية ودينية واجتماعية في منطقتنا تساهم في تكريس الرفض والكراهية والعنف علنًا، بينما يخفي بعض رموزها هوياتهم الحقيقية خلف ستار السلطة أو الدين أو العلم أو الفن أو غيرها.

هذه الأمثلة تكشف أن الازدواجية بين خطاب عام من الكراهية والعنف وحياة سرية تناقض الصورة العامة ليست حوادث فردية معزولة، بل نمط متكرر يعكس كيف يُستخدم رهاب المثلية (الهوموفوبيا) كسلاح سياسي وديني واجتماعي، بينما يعيشه بعض مروّجيه في الظل.

أصوات كويرية تتحول إلى أدوات قمعية

حين يهاجم شخص مثلي أو كويري مجتمع الميم من موقع نفوذ سياسي أو ديني أو طبي أو فني أو مجتمعي، لا يكون تأثيره رمزيًا فقط، بل يمنح شرعية متجددة لرهاب المثلية وكراهية وتعنيف المثليين ويضاعف الخطر على الآخرين. الأصوات “من داخل” مجتمع المثليين ومجتمع الميم تتحول إلى سلاح في يد الأنظمة القمعية لتبرير قوانينها أو سياساتها التي ترفضنا وتنكل بنا وتجعل حياتنا جحيمًا يومًا بعد يوم.

توضح دراسة صادرة عن الجمعية الأميركية للأطباء النفسيين (APA) أن “رهاب المثلية الداخلي” قد يقود بعض الأفراد إلى تعزيز خطاب الكراهية كوسيلة دفاعية، وهو ما يترجم في المجال العام إلى هجوم صريح على حقوق المثليين ومجتمع الميم. بحسب الدراسة، هذا النمط يضاعف من الوصم الاجتماعي ويخلق بيئة أكثر عداءً.

الأكاديمي الأميركي لاري غروس، في كتابه Contested Closets: The Politics and Ethics of Outing، يذهب أبعد من ذلك، مؤكّدًا أن استخدام شخصيات مثلية وكويرية لخطاب يعادي المثليين ومجتمع الميم لا يشكل خطرًا فقط على السياسة، بل يهدد التضامن الداخلي لمجتمع الميم عبر “بث الشك وانعدام الثقة من الداخل”.

ويكون الأثر مضاعفًا على الشباب المثليين والكويريين الذين يعيشون في مجتمعات محافظة. إذ يرسل هذا التناقض رسالة خادعة مفادها أن النجاة لا تكون إلا عبر الإنكار أو تبني خطاب معادٍ لهويتهم. تقرير صادر عن مشروع تريفور (Trevor Project, 2022) أكد أن رؤية شخصيات عامة كويرية تتبنى خطابًا معاديًا تؤثر سلبًا على الصحة النفسية للمراهقين الكويريين، وتزيد من احتمالات الاكتئاب والشعور بالعزلة.

ضغوط السرية تتحول إلى انهيارات عند الفضح العلني

الازدواجية العلنية والخفية لا تمرّ بلا ثمن. العيش في حالة إنكار متواصلة يرهق صاحبه نفسيًا واجتماعيًا، ومع انكشاف الحقيقة تصبح الضغوط مضاعفة.

بحسب تقرير الجمعية الأميركية للطب النفسي (APA 2013)، الأفراد الذين يعيشون هوية مزدوجة ويعانون من التنافر المعرفي بين حياتهم الخاصة والعامة أكثر عرضة للقلق، التوتر المزمن، واضطرابات الاكتئاب. هذه الضغوط النفسية تتفاقم حين يتحول الصراع الداخلي إلى فضيحة علنية.

الأستاذة إيف كوسوفسكي سيدغويك (Eve Kosofsky Sedgwick)، وهي من أبرز منظّري دراسات الكوير، أشارت في كتابها Epistemology of the Closet إلى أن “العيش في السرية المستمرة يفرض على الفرد استراتيجيات دفاعية مرهقة، تتحول مع الوقت إلى سجن شخصي قد يدمّر حياته”.

وتاريخيًا، كثيرون ممن كُشفوا أمام الإعلام أو عبر التحقيقات الصحفية انتهت مسيرتهم المهنية فجأة. بعضهم خسر دعم الحزب أو المؤسسة التي خدمها، وآخرون واجهوا انهيارًا شخصيًا بسبب الجمع بين وصمة الكويرية التي حاولوا إخفاءها ووصمة النفاق التي لاحقتهم بعد انكشافهم.

جدل أخلاقي بين المساءلة والخصوصية: حجج تتصارع في العلن

على الجانب الأول، يدفع تيارٌ كويري بارز باتجاه المساءلة حين يتحوّل نفوذ بعض الشخصيات العامة إلى أداةٍ لإيذاء مجتمع الميم.

الصحفي والناشط الأميركي ميكيلانجيلو سيجنوريل (Michelangelo Signorile) قدّم مبكرًا إطارًا نظريًا يرى أن كشف التناقضات يصبح ممارسةً مشروعة عندما يوظّف أصحابها سلطتهم لسنّ سياسات وتمرير خطابات تُلحق ضررًا مباشرًا بأفراد مجتمع الميم؛ أي إن “الفضح” هنا ليس فضولًا أخلاقيًا بل تصحيح ميزان قوة وإزالة امتيازٍ يحتمي بالسرّية لإدامة القمع.

هذا الخط الفكري صاغه سيجنوريل في كتابه Queer in America (كوير في أميركا) الذي صدر عام 1993، مؤكدًا أن تجاهل هذه الازدواجية يشرعن استمرار الأذى ضد أفراد مجتمع الميم.

الأكاديمي الأميركي لاري غروس (Larry Gross) نظّم هذا الجدل في كتابه Contested Closets: The Politics and Ethics of Outing (السرية المتنازع عليها: السياسة وأخلاقيات الفضح) الذي صدر عام 1993، واضعًا معيارًا مفاده: عندما يتعارض السلوك الخاص مع أفعالٍ عامة مُؤذية — مثل التصويت على قوانين أو التصريح بخطابات تحرض على الكراهية والعنف — يصبح كشف التناقض قضية شأن عام لا مسألة حياة خاصة.

النقاش عند لاري غروس ليس أخلاقيًا مجردًا، بل مرتبطٌ ببنية السلطة والإعلام وكيف يكتسب بعض الأشخاص الشرعية المجتمعية عبر التستّر والتكتم.

في بريطانيا، طرح الناشط الحقوقي بيتر تاتشِل (Peter Tatchell)، أحد مؤسسي حركة OutRage! (أوت ريدج!)، دفاعًا صريحًا عن “الفضح المُستهدف” ضد شخصيات كنسية وسياسية وصفها بالمنافقين: وهم من يهاجمون علنًا المثليين ومجتمع الميم، بينما يعيشون حياتهم سرًا كأشخاص مثليين ومن مجتمع الميم.

حجته أن هذا الكشف يمنع استخدام السرّية كسلاحٍ لقمع الآخرين، وقدّم أمثلة من حملات التسعينيات داخل الكنيسة الأنجليكانية، حيث تراجع بعض الأشخاص الذين صرحوا بخطابات تحرض على الكراهية والعنف ضد المثليين ومجتمع الميم بعد انكشاف تناقضهم.

لكن مع مطلع الألفية الجديدة، تطوّر النقاش ليتجاوز المواقف الكلاسيكية. في كتاب Gay Ethics: Controversies in Outing, Civil Rights, and Sexual Science (الأخلاقيات المثلية: جدالات حول الفضح والحقوق المدنية والعلوم الجنسية) الذي صدر عام 1994، عرض الفيلسوف تيموثي مورفي (Timothy Murphy) مساهمات متعددة، أبرزها مقالة للفيلسوف ريتشارد مور (Richard Mohr) الذي اعتبر أن الفضح فعل أخلاقي في حال لم يُوقف المثليين والكويريين أنفسهم من المساهمة في قمع مجتمعهم.

لاحقًا، في كتاب Passing/Out: Sexual Identity Veiled and Revealed (الاندماج/الفضح: الهوية الجنسية بين الحجب والكشف) الذي صدر عام 2012، قدّم دينيس كوولي (Dennis R. Cooley) وكيلبي هاريسون (Kelby Harrison) قراءة جديدة للفضح والإخفاء، باعتبارهما ليسا مجرد قرارات فردية بل آليات اجتماعية تتقاطع مع الإعلام والقانون.

رأى المؤلفان أن كشف تناقض السياسي أو رجل الدين الذي يهاجم الميم بينما يعيش حياة كويرية سرية لا يكشف الفرد فحسب، بل يفضح بنية كاملة من النفاق المؤسسي.

أما أستاذ القانون الأميركي كينجي يوشينو (Kenji Yoshino) فقد تناول في كتابه Covering: The Hidden Assault on Our Civil Rights (التخفي: الاعتداء الخفي على حقوقنا المدنية) الذي صدر عام 2006 مفهوم “التخفي” — أي تهذيب الهوية الكويرية أو إخفاؤها بما يتناسب مع الأعراف السائدة.

ورغم أنه لا يناقش الفضح مباشرة، إلا أن طرحه يوضح كيف يمكن أن يقود الضغط الاجتماعي إلى إنكار الذات وتبنّي خطاب معادٍ للنفس وللآخرين الذين يشبهوننا، الأمر الذي يضع أصحابه في قلب معضلة أخلاقية حين يتحولون إلى أدوات تقمع أفراد مجتمعاتهم.

أما على الجانب الآخر، يتمسّك تيارٌ واسع داخل الفكر والصحافة الكويرية بمبدأ الخصوصية بوصفه خطًا أحمر.

تُذكّر الباحثة الأميركية إيف كوسوفسكي سيدغويك (Eve Kosofsky Sedgwick) بأن السرّية — مهما كانت إشكاليتها — ترتبط بشروط العيش والبقاء تحت القمع، وأن تحويل “الفضح” إلى أداة روتينية قد يعيد إنتاج منطق الرقابة ذاته الذي قاومته وتقاومه الحركة الكويرية عبر تاريخها.

في كتابها Epistemology of the Closet (النظريّة المعرفة حول سرية الهوية الجنسية) الذي صدر عام 1990، تُحذّر سيدغويك من أن أنماط الكشف القسري عن الهوية المثلية والكويرية تُراكم توترات نفسية واجتماعية وتغذّي ديناميات الإذلال العام بدلاً من تفكيكها.

في الصحافة الأميركية أيضًا، ظهر اتجاه يربط الخصوصية بحق تقرير المصير: فقد انتقد كتّاب عديدون تحويل الحياة الجنسية — حتى عند المنافقين — إلى مادة فضيحة، معتبرين أن “الفضح” قد يصبح تعدي على قدرة الفرد في تحديد زمن الإفصاح عن مثليته وكويريته وهويته الجنسية وشكله، حتى لو كان ممن يرفضون حقوق المثليين ومجتمع الميم.

حتى الآن، لم تُبرز أصوات بارزة من المنطقة أو الجنوب العالمي نقاشًا مباشرًا حول هذه الظاهرة، ما يعكس اختلاف الأولويات وسياقات الخطر؛ ففي حين يُناقش الغرب أخلاقيات “الفضح”، يظل النقاش في منطقتنا مرتبطًا أساسًا بالنجاة من القمع والابتزاز والوصم.

نقاشات غربية لا يمكن استنساخها في مجتمعات تُجرّم الكويرية

حين ننظر إلى الجدل الدائر في الولايات المتحدة وأوروبا حول فضح الشخصيات العامة، يبدو النقاش في جوهره مرتبطًا بتوازن بين الخصوصية الفردية والمساءلة السياسية أو الأخلاقية. هناك، قد يؤدي الفضح إلى استقالة سياسي، أو فضيحة إعلامية، أو خسارة منصب. لكن في بلدان كثيرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بل وحتى في أجزاء من أفريقيا وآسيا، يختلف المشهد جذريًا: المثلية والكويرية نفسها تُجرَّم قانونًا وتُوصم اجتماعيًا، وأي كشف قسري للهوية قد يتحول إلى حكم بالسجن أو تهديد مباشر للحياة.

في هذه السياقات، لا يملك النقاش حول “هل يجب أن نفضح المنافقين؟” نفس الحمولة الأخلاقية التي يحملها في الغرب. الفضح هنا لا يعني إسقاط قناع سياسي أو محاسبة مسؤول على تناقضه، بل يعني في الغالب تسليم الفرد إلى آلة قمعية مستعدة لاضطهاده بلا رحمة. المجتمع الذي يُدين الكويريين في العلن لن يتردد في استغلال أي فرصة لكسر حياتهم الخاصة، سواء كان الشخص ناشطًا أو طبيبًا أو سياسيًا أو حتى مجرد فرد عادي.

تُظهر التجربة الإقليمية أن “الفضح” يُستخدم أساسًا كأداة قمعية في يد السلطات والجماعات المعادية، وليس كوسيلة مساءلة. من الابتزاز الرقمي عبر نشر الصور الخاصة، إلى التحقيقات الصحفية المنحازة التي تتعمد الكشف عن هوية أشخاص بهدف تشويههم، يتحول الفضح في هذه المجتمعات إلى سلاح لإسكات الأصوات الكويرية، لا إلى أداة لكشف النفاق.

ولهذا، يرى العديد من الناشطين الحقوقيين في المنطقة أن النقاش الغربي حول أخلاقيات الفضح لا يمكن نقله ببساطة إلى هنا. فبينما يناقش الغرب حدود الخصوصية في مواجهة النفاق السياسي، تبقى الأولوية في منطقتنا هي السلامة الجسدية والنفسية، وحماية الأفراد من السجن أو العنف الأسري أو القتل. بعبارة أخرى: ما يُنظر إليه في الغرب كجدل أخلاقي مشروع، يتحول في مجتمعاتنا إلى خطر وجودي على حياة المثليين والكويريين.

لكن المفارقة الأكثر قسوة تظهر حين يخرج أشخاص مثليون أو كويريون في منطقتنا ليتبنّوا علنًا خطابًا معاديًا للميم. لا نتحدث هنا فقط عن التناقض، بل عن خيانة مضاعفة. فكيف يمكن لشخص يعرف من الداخل ثِقل العنف والوصم أن يتحوّل إلى أداة لتكريسه؟ أهو الخوف من انكشاف هويته الذي يدفعه إلى المبالغة في العداء، أم هو الطموح السياسي أو الديني الذي يجعله يبيع نفسه على حساب مجتمعه؟

يترك هذا السلوك جرحًا عميقًا داخل النسيج الكويري. شاب أو شابة يتابعان الخطاب الإعلامي، فيكتشفان أن من يشبههما يقف في الصفوف الأولى لإضفاء الشرعية على كراهيتهما. الرسالة قاسية: النجاة لا تتحقق عبر التضامن، بل عبر إنكار الذات أو المشاركة في اضطهادها.

في منطقة تُحاصر الكويريين بحملات كراهية منظمة، وتجريم قانوني، ووصم اجتماعي لا يرحم، نحن بحاجة إلى كل صوت. كل شخص قد يشكّل فرقًا بين الصمود والانكسار. ما لا نحتاجه هو أصوات من الداخل تُعيد إنتاج العنف نفسه. حين يهاجم الكويري الميم علنًا، فهو لا يمارس تناقضًا فرديًا فحسب، بل يوجه طعنة إلى مجتمع ضعيف أصلًا ويصارع للبقاء.

ومع ذلك، يبقى السؤال الأخلاقي الأكثر خطورة: هل فضح هؤلاء هو السبيل لوضع حد لنفاقهم؟ أم أن هذا الفضح سيُقدّم للسلطات وللمجتمع المعادي أداة جديدة لسحقهم، وبالتالي سحقنا جميعًا؟ هنا لا يعود النقاش مسألة نظرية، بل يتحول إلى معادلة مصيرية: بين العدالة والمساءلة من جهة، والسلامة والبقاء من جهة أخرى.

ميزانٌ دقيق بين كشف النفاق وصون الحياة

لا إجابة سهلة. فالفضح قد يكون أداة لكشف التناقض حين يستخدم شخص ما نفوذه السياسي أو الإعلامي لتجريم الميم وإيذائهم، لكنه في السياقات القمعية قد يتحوّل إلى حكم قاسٍ يعرّض حياة الأفراد للخطر.

في الغرب، يمكن أن يؤدي الفضح إلى استقالة نائب أو فضيحة إعلامية تنتهي عند حدود المؤسسات. أما في منطقتنا، حيث المثلية نفسها تُجرَّم والوصم الاجتماعي يطارد الكويريين في كل مكان، فإن الفضح قد يعني السجن أو الطرد من العائلة أو حتى القتل. وهنا يصبح النقاش أكثر خطورة: هل نحن أمام مساءلة للنفاق، أم أمام مشاركة غير مقصودة في أدوات القمع؟

يؤكد الناشطون والباحثون أن الأولوية يجب أن تبقى للسلامة الجسدية والنفسية، وأن أي مساءلة يجب أن تراعي دائمًا حجم الضرر العام مقابل الخطر الواقع على الأفراد. فالمجتمع الذي ناضل ويناضل طويلًا ضد الإخفاء لا يمكن أن يعيد إنتاج أدوات الرقابة نفسها.

لكن تبقى المفارقة معلّقة: في لحظة يحتاج فيها المثليين والكويريين إلى كل صوت وإلى أقصى درجات التضامن، يظهر من بينهم من يعيد إنتاج خطاب الكراهية نفسه. والسؤال الذي لا مهرب منه: متى يصبح كشف هؤلاء حماية للمجتمع، ومتى يتحوّل إلى سلاح جديد يطعن أضعفنا أولًا؟

وبينما نرى أن الفضح فعل غير أخلاقي إذا كانت عواقبه بهذه الخطورة في بلداننا، فلا يمكن أن نتوقع من كل المثليين وأفراد مجتمع الميم أن يتحلوا بضبط النفس عندما يشاهدون خطابات الكراهية والعنف ضدهم تخرج من واحد منهم، لهذا فإن من الحكمة أن يتجنب أفراد مجتمع الميم أسلوب تجنب الشبهات عبر مهاجمة مجتمع الميم لأن عواقب فضحهم من أفراد مجتمع الميم بسبب خطاب الكراهية قد تكون أكبر بكثير من المنافع التي يتصورون أنهم سيحققونها عبر هذا الأسلوب.