في وقت كانت فيه حياة المثليين تُجرَّم في معظم أنحاء العالم، شكّلت باريس في ثلاثينيات القرن العشرين واحة نادرة للحرية والتعبير للمثليين والكويريين.
في قلب هذا الانفتاح الاجتماعي، وُجد ملهى ليلي يُدعى لو مونوكل (Le Monocle)، أصبح رمزًا للمرأة المثلية والهوية الكويرية، ومَعلمًا بارزًا في التاريخ الثقافي للمثليات في أوروبا ما بين الحربين.
تُظهر الصورة أعلاه، التي التُقطت عام 1932، امرأتين تجلسان معًا داخل هذا الملهى الشهير، من بينهن فيوليت موريس، التي سيصبح اسمها لاحقًا مرتبطًا بالجاسوسية والتعاون مع النازيين.
باريس: ملاذ المثليين قبل حركة الحقوق
في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، اكتسبت باريس سمعة عالمية كمركز للفكر الحر، والتجريب الفني، والانفتاح الاجتماعي. قبل عقود طويلة من صعود حركة حقوق مجتمع الميم، كانت العاصمة الفرنسية ملاذًا آمنًا لأولئك الذين يعيشون خارج الأطر التقليدية.
من صالونات الأدب التي استضافتها غيرترود شتاين وآليس بي. توكلاس، إلى كاباريهات بيغال المتلألئة، كانت باريس تنبض بالتعبير الثقافي — وغالبًا ما كانت حياة المثليين والمثليات في قلب هذا المشهد. وفي هذا السياق النابض، نشأت النوادي الليلية الخاصة بالمثليات، وكان لو مونوكل أحد أبرزها.
لو مونوكل: رمز للهوية النسوية الكويرية في مونمارتر
تأسس ملهى لو مونوكل في عشرينيات القرن العشرين، ويُعد من أوائل الحانات المخصصة للمثليات في أوروبا. كان يقع في حي مونمارتر الشهير، ويستقطب النساء اللاتي أحببن النساء، خصوصًا اللواتي كسرن القوالب النمطية للأنوثة. العديد من زائرات الملهى كنّ يرتدين ملابس الرجال، في تحدٍ صريح للأنظمة الاجتماعية والجندرية السائدة.

اسم الملهى “لو مونوكل” مستوحى من نظارة monocle أحادية العدسة، والتي كانت آنذاك رمزًا سريًا للمثليات في باريس. كما أشارت الباحثة فلورانس تامانييه في كتابها تاريخ المثلية في أوروبا، كانت مثل هذه الرموز أشكالًا خفية للمقاومة، تؤسس لثقافة كويرية صامدة وإن كانت غير مرئية علنًا.
في هذا المكان، كانت النساء ترقصن، يشربن، يتحدثن بحرية، ويتنفسن هواءً من الأمان والانتماء—حتى جاءت الفاشية لتقلب الطاولة.
الاحتلال النازي وإغلاق المساحات الكويرية
بدأت نهاية هذا العصر الذهبي عام 1940 مع احتلال النازيين لباريس. فقد رأت الأيديولوجيا النازية في المثلية تهديدًا لمفهومها “النقي” عن الرجولة والعرق، ما أدى إلى غلق النوادي الكويرية، واضطهاد المثليين والمثليات، بل وسجن بعضهم أو إرسالهم إلى معسكرات الاعتقال.
وبالرغم من إعادة افتتاح ملهى لو مونوكل بعد تحرير باريس، إلا أنه لم يتمكن من استعادة روحه القديمة. الحرب كانت قد غيرت كل شيء—بما في ذلك المشهد الثقافي الكويري في فرنسا.
فيوليت موريس: رياضية، متمردة، وعميلة مزدوجة
إحدى المرأتين في الصورة هي فيوليت موريس، رياضية فرنسية بارزة في وقتها، اشتهرت بقوتها الجسدية، وارتدائها ملابس رجالية، وخياراتها الجريئة في الحياة. نافست في ألعاب القوى، والملاكمة، وسباق السيارات، وأجرت عملية استئصال لثدييها كي تتمكن من المشاركة بشكل أفضل في عالم الرياضة الذكوري.

لكن حياة موريس اتخذت مسارًا مظلمًا في الثلاثينيات، حين بدأت بالتعاون مع الاستخبارات النازية، حيث زوّدت الألمان بمعلومات حساسة عن خط ماجينو الدفاعي وتمركز الدبابات الفرنسية قبل الحرب. وخلال الاحتلال النازي، استمر تعاونها مع الألمان بشكل موسع.
حكمت المقاومة الفرنسية عليها بالإعدام غيابيًا، وفي أبريل 1944 نُفِّذ الحكم فعليًا، إذ تم اغتيالها في نورماندي ودُفنت في قبر جماعي.
لماذا نعيد سرد هذه القصص؟
اليوم، ومع استمرار نضال المجتمعات الكويرية من أجل الاعتراف والحقوق، تظل قصص مثل ملهى لو مونوكل تذكرة بأزمنة مضت، عاش فيها المثليون/ات بكرامة رغم غياب القوانين التي تحميهم.
- تسليط الضوء على هذه الأماكن يثبت أن وجودنا ليس حديثًا، بل يمتد عبر قرون.
- التذكير بهذه الفصول المنسية يساهم في تفكيك السرديات الاستعمارية التي ترى الهوية الكويرية “اختراعًا حديثًا”.
- تسليط الضوء على شخصيات معقدة مثل فيوليت موريس يُرينا أن التاريخ الكويري ليس أبيض وأسود، بل غني بالتناقضات.
إرث المقاومة الكويرية عبر الزمن
بعد مرور ما يقرب من مئة عام على أيام لو مونوكل الذهبية، لا تزال رسالته حاضرة: الحرية، التعبير، والمقاومة. لقد كانت باريس وقتها موطنًا لصوت المثليات، حتى وإن كان همسًا خافتًا في زوايا المجتمع. قد أُغلق الملهى، لكن إرثه يعيش في كل فعل من أفعال الظهور العلني، وفي كل قصة تُروى عن وجودنا.