أطياف

ألف ليلة وليلة (الحكاية الممنوعة)

ماهر صبري: آدم في أرض الخوف

عزيزي ماهر، أكتب اليك خطابي هذا في يوم الذكرى العشرين للكوين بوت التي وقعت يوم الحادي عشر من مايو ٢٠٠١. أتذكر أني أخبرتك من قبل أن هذا اليوم أصبح يعرف باليوم المصري ضد رهاب المثلية والعبور الجندري والجنسي. أتصور أنك على وشك الاستيقاظ بينما أكتب اليك هذا الخطاب. حتما ستسرع الى شاشة الكمبيوتر لتطالع أخبار مصر. كم تحب مصر يا ماهر وكم تحب أهل مصر. كلما أخبرتك أن الناس تروي عنك هنا روايات أسطورية ليس لأنك بطل بمعايير المجتمع الذي ينتصر لصاحب الصوت الأعلى ولكن لأنك إنسان بكل ما تحمله الكلمة من قوة وضعف وصواب وخطأ وأحلام وأوهام. اسمح لي في هذا الخطاب أن أروي لك حكاية عنك حاولت أن أقصها عليك من قبل ولكن حياءك وكرهك العفوي للفت الانتباه منعني من روايتها. اليوم أرويها ليس لك فقط وليس للأجيال الأصغر والأجمل من مجتمع الميم في مصر ولكن لأن في تلك اللحظة الكئيبة على مستوى العالم يسعدني أن أتذكر أنك كنت في رواية مراهق يبلغ من العمر ١٦ عاما وقت كوين بوت بمثابة أدم في أرض الخوف. لا أقصد أنك نبي بالطبع أو أنك منزه ولكن أجمل ما في قصة آدم هي خطيئته والتي إن أعدنا النظر فيها سنجد أنها لم تكن أكثر من تعبير عن فضول انساني لاستكشاف فواكه الحلم الممنوعة. ونظراً لأنك في الأساس فنان يا ماهر سأكتب اليك خطابي هذا سلسلة من المشاهد عن قصة البطولة فيها للحلم والصداقة والمغامرة. أحلامك أنت، صداقتك أنت ومغامرتك أنت يا ماهر.

المشهد الأول: السويس- مايو ٢٠٠١

شهر واحد يفصل المراهق ذو الـ ١٦ عاما عن امتحانات الثانوية العامة. يعلم جيدا أنه إذا لم يحصل على مجموع عالي في الثانوية العامة سيظل حبيسا في السويس بين أفراد عائلة تفننت في السخرية من أدائه (الناعم). هو ليس مغلوبا على أمره وإنما حالما يعلم أنه أضعف من الخوف ومن الغضب. فجأة كبار أفراد العائلة يتحدثون عن تنظيم للشواذ تم القبض عليه في مركب عائم تدعى (كوين بوت). صدقني يا ماهر حاولت أن أتجنب السمع لكني لم أستطع. شيء ما قال لي أن هؤلاء المقبوض عليهم تربطني بهم صلة ما ولكني كنت أضعف من أن أبحث عن جذور هذه الصلة. يجب أن أصب كل تركيزي على خطة خروجي من السويس، من أول وطن للخوف في عالمي الصغير وقتها. وأول خطوة في هذه الخطة كانت الثانوية العامة. إذا سألتني لماذا، سأقول لك أن أهلي لم يملكوا من الأموال ما يكفي لإرسالي للقاهرة كي أتعلمـ نظرا لأن هذا الخيار كان متاح فقط لمن يحصلوا على مجاميع كليات القمة. لم يفعلها أحد في العائلة من قبلي. أحب أن أتخيل أن ما جعلني أفعلها وقتها هو طموحي ولكني سأكون كاذبا إذا لم أقل إن صور الرجال من (كوين بوت) وهم يغطون وجوههم من قسوة الكاميرا وكره خطابات الصحفيين جعلتني أشعر بأن خوفي في تلك اللحظة كان بلا شك واحداً من أقوى العوامل المساعدة.

المشهد الثاني: سينما كوزموس- وسط البلد- صيف ٢٠٠٦

تخرجت من كلية الإعلام وبدأت عملي كصحفي ومعد تليفزيوني في صيف ٢٠٠٦. كنت مثل الطفل منتظر بلهفة أن أشاهد عمارة يعقوبيان لسببين. السبب الأول الدعاية الاسطورية التي قالت إنه سيكون فيلما (مهما) والسبب الثاني بالطبع هو رؤية حاتم رشيد الصحفي المثلي جنسيا في الفيلم. جلست على مقعدي في سينما كوزموس بوسط المدينة في صيف ٢٠٠٦، وكلما ظهر حاتم رشيد على الشاشة الفضية تراجعت في مقعدي أكثر وأكثر لدرجة أني شعرت أني ضئيل جدا بالمقارنة بالجمهور من حولي. لم يكن هؤلاء الأشخاص رجال شرطة عنيفين أو إرهابيين ملثمين وانما مواطنين عاديين شعروا بأريحية تامة وهم يسبون حاتم رشيد دون أن يدركوا أن بينهم شخص عادي مثلهم ولكنه على صلة قرابة بحاتم رشيد. كل هذا الرعب لا يساوي شيء أمام اللحظة التي تم قتل حاتم رشيد فيها على يد شخص قام (باصطياده من الشارع). لم يكن كافيا بالنسبة لجيراني في قاعة السينما أن صناع الفيلم أبوا أن يقتل حاتم رشيد على يد حبيبه مثلما حدث في الرواية فإذا بهم يصفقون بحرارة وفي تلك اللحظة تمنيت من الله أن يشفيني من مثليتي أملا في أن أحيا حتى لا ألاقي مصير حاتم رشيد. أمضيت قرابة سنة أهرب من رؤية وجه قتلة حاتم رشيد في شوارع وسط البلد حتى التقيت بشخص مثلي قال لي أنه هو أيضا يخشى مصير حاتم رشيد.

المشهد الثالث: صالة التحرير- إحدى المجلات الحكومية- أكتوبر ٢٠٠٨

خرجت لمقابلة مجموعة من الأصدقاء المثليين في إحدى الكافيهات. كنت أحاول العثور على موضوع صحفي يمكنني الكتابة عنه في قسم الفن بالمجلة التي كنت أعمل بها، وبالصدفة البحتة أخبرني صديق عن فيلم يدعى (طول عمري). عدت مسرعاً إلى المجلة. نبضات قلبي كانت تسارع خطواتي الغير مبالية بالزحام وضجيج السيارات. وصلت الى صالة التحرير وأخرجت (اللابتوب) وأخذت أبحث عن فيلم طول عمري. لا توجد كلمات يمكنها وصف ما شعرت به وقتها يا ماهر. أتعلم كم من الجميل أن تعرف أخيراً أنك لست وحدك. أخذت أقرأ عنك بعد أن قررت الكتابة عن الفيلم. لم تكن بالنسبة لي بطل بالمعايير التقليدية بل كنت أجمل من ذلك بكثير. أذكر أن أكثر ما استوقفني في حكايتك أنك لم تكن ناشطا حقوقيا يا ماهر بل كنت فنان يتألم بحق لأصدقاءه. ولعل هذا ما يجعلني أراك كما أنت. صديق رفض أن يتعرض أصدقاءه للظلم فقرر أن يرسل خطابات لكل المنظمات الحقوقية على وجه الكوكب طلباً للمساعدة ليس له بل لأصدقائه ولأصدقاء أصدقاءه، لشركائهم العاطفيين ولأصدقاء شركائهم. أرسلت اليك ايميل عبر الهوتميل وانتظرت الرد. بدا لي الانتظار وقتها أبديا إلى أن وصلني الرد منك. كلمات قليلة قالت لي الكثير. قالت لي أهم ما أردت سماعه وقتها، أن للحكاية جذور ورواة وفي روايتي كنت أنت راوي حكاية كوين بوت. الراوي الخجول الحيي الرقيق. ببساطة راوي لا يشبه باقي الرواة الذكور الذين يتخيلون أن أصواتهم هي وحدها أصوات الحق والحقيقة. لا أعلم حتى الان كيف تم نشر المقال ولكني أذكر أن تلك كانت من المرات الأوائل التي يتم فيها كتابة (مثليين) بدلا من شواذ في نفس المجلة التي قالت على ضحايا كوين بوت شواذ. ربما أكون أنا من فعلت هذا ولكن صوتك الذي تحدث إلي عبر الايميل ساعدني أن أفعلها. لذا شكرا يا ماهر

المشهد الرابع: القاهرة- صيف- خريف ٢٠١٢

مرت سنوات منذ تلك الواقعة ومر عام منذ اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١. مرسي كان قد أصبح رئيسا للجمهورية. في ذلك الوقت وصلتني أول هدية منك. صديقة مشتركة أعطتني الأفلام التي أرسلتها لي بعد أن أرسلت لك معها نسخة من كتابي. لا أعلم لماذا ولكن هداياك قالت لي الآتي. أن يحتفي التقدميون واليساريون بـ(مرسي) رئيسا ليس بالضرورة دليلا على أن هذا هو الرهان الوحيد المنطقي. هداياك قالت لي أن النساء، أن النسويات، أن الأقباط، أن الكويريين والكويريات جميعهم يعلمون حقيقة الإسلام السياسي. ربما لن ينجح الإخوان في طردنا من الحرية ولكنهم قادرون على ضرب عابرة جندريا في المنصورة أو طنطا أو سوهاج. لم أكن قد قابلتك بعد يا ماهر ولكن كل الحكايات التي كانت تصلني من أصدقاءك كان تقول لي أنك صديقي ومعلمي وأستاذي. أتعلم يا ماهر؟ أصعب شيء في مصر هو أن تضطر لارتجال حياة كويرية تأبى الخوف، خاصة وأن هناك كثير من الأصوات التي تقول لك أنك على خطأ لذا شكراً أنك قلت لي في وجداني أن من حقي أن أكون نفسي.

المشهد الخامس: كاليفورنيا- نوفمبر ٢٠١٨

أخيرا جاءت اللحظة التي انتظرتها ١٠ سنوات. أخيرا سأقابلك يا ماهر. كم كنت حنونا في تلك اللحظة يا ماهر. لم تقل سوى كلمات قليلة ولكن عيونك كانت دافئة وشغوفة مثل أحلام المصيف في اسكندرية بالتسعينيات. تلعثمت أنا وقتها كثيرا وما زلت أتلعثم حتى الان كلما أراك أو أتحدث اليك. كيف أقول لك أنك أنقذتني أنا وكثيرون وكثيرات غيري دون أن تدري؟ هل تعلم كيف؟ ليس فقط لأنك غامرت بكل ما تملك من أجل صنع فيلم يوثق فترة كوين بوت ولكن لأنك اضطررت لأن تفعل مثل ادم. تجرأت على قول لا في مواجهة الظلم بمنتهى الشجاعة ولكن أيضا بحنو شديد وهذا الحنو هو ما يفتقده الأبطال المغايرين جنسيا في الملاحم المصرية والمسارح الاستعراضية الامريكية. كانت هذه هي المرة الأخيرة التي أراك فيها كبطل أحلامي والمرة الأولى التي أبدأ في رؤيتك فيها كصديق أجدني متحمساً لصداقته. تكررت مقابلتنا منذ تلك المرة وفي كل مرة تخلق لي من طعامك وأحلامك وأفلامك وحكاياتك عن الأماكن والأشخاص وطن وبيت. على مدار السنوات الثلاث الماضية وأنا أستمتع بصداقتك يا ماهر ويا لها من متعة بكل ما فيها من شجن وصمت وحكي وحنين وشغف صادق لا يخفت ولا ينام.

المشهد السادس: السويس- مارس ٢٠٢١

والآن يا ماهر، أكتب إليك وأنا في أكثر لحظاتها ضعفا لأقول لك شكرا. مرت ٢٠ سنة منذ كوين بوت، ٢٠ سنة انتقلت فيها بين مهن ومجالات دراسية كثيرة بداخلي حلم بسيط مثل كثيرين غيري من المثليين والمثليات ومزدوجي الميول الجنسية والعابرين والعابرات. حلم أن تكون لي عائلة تقبلني وتحبني كما أنا. أتعلم يا ماهر؟ لقد ماتت أمي منذ شهرين. لقد أحببتها كثيرا ومازلت أحاول التأقلم على ألام فقدانها، ولكن معاناتي ليست نابعة فقط من الفقد وإنما نابعة من الرفض. ذلك الشبح الذي يطارد الكويريين والكويريات مهما كانوا أقوياء في مواجهة تحديات الحياة. الإحساس بالرفض من أمي مخيف ومرعب يا ماهر. أتعلم ما الذي يساعدني في مواجهة هذا الخوف يا ماهر؟ هو إدراكي في تلك اللحظة بأنك فتحت بابا للمحبة والحلم في ٢٠٠١ وتركته مفتوحاً منذ إذن للغرباء أمثالي وأمثالك وأمثال مجتمعاتنا الكويرية الحالمة الشجاعة. تركت الباب مفتوحا رغم أنك كان من الممكن أن تغلقه. أتصور أنك لم تغلق ليس فقط حباً في القضية يا ماهر وإنما حباً للناس لناس مصر ولناسك من أفراد مجتمع الميم في مصر يا ماهر. لا أعلم كم يلزمني من الوقت للشفاء من الام هذا الرفض ولكني أعرف الاتي. أنني سأختار أصدقائي مثلما فعلت أنت مهما كلفني الأمر. لست مهتما بأن أكون مدافعا عن حقوق الإنسان. ما يشغلني في هذه اللحظة هو الاستمتاع بتمضية الوقت مع ابني الكلب الصغير ذو الفرو الكثير (فريدي ميركوري). ما يشغلني في هذه اللحظة أن أحب ناسي وأهلي من أفراد مجتمع الميم. هذا الحب هو الأمل دوما وأبداً. الباب الذي فتحته أنت وغيرك يا ماهر من أبطال كوين بوت ليس بابا للنضال بتعريفاته اليسارية وإنما باب للبهجة والرقص والحلم وكما قالت نبيلة عبيد في دور سونيا سليم من رائعتها (الراقصة والسياسي): أي نعم انتوا يا بتوع السياسة مكارين بس ربنا يكفيك شر مكر العوالم!

إمضاء

تيتي

١١- مايو-٢٠٢١

شروط الاستخدام

محتوى أطياف مرخص برخصة المشاع الإبداعي. يسمح بإعادة نشر المواد بشرط الإشارة إلى المصدر بواسطة رابط تشعبي، وعدم إجراء تغييرات على النص، وعدم استخدامه لأغراض تجارية.