أطياف

أكتب إليك يا أحمد

مرحبًا يا صديقي.. آسف… لم تعد صديقي منذ وقت طويل.

أكتب إليك وأعلم أن رسالتي لن تصلك… لن أرسلها إليك ولا أظن أنّك تقرأ تدوينتي.

لمَ تقرأها وأنت نسيتني؟ كان لزامًا عليك أن تنساني… فأنا الشيطان الصغير في روايتك!

كثيرًا ما أقوم بالهروب من الذكريات التي تطاردني، في أحلامي، في كوابيسي، حتى في حياتي في صحوتي، مع كل شرارة تشتعل أمامي، وها أنا الآن أنجرف في سيل من الذكريات، من العواطف واللقطات التي حملتني إليك في صحوتي هذه التي كنت أهرب منها ولم أستطع الهرب حقًا.

أذكر أنّنا آخر مرة تكلّمنا كانت منذ أحد عشر سنة، لكنّني صدفتك منذ عدّة سنوات، كنت أقود سيارتي لأجدك أمامي حتّى كدت أدهسك، التقت عينانا في تلك اللحظة لكنك سرعان ما أشحت بنظرك بعيدًا عني، كأنك لم تراني، كأنني لم أكن جزءًا من حياتك، كأنّنا لم نتشارك لحظات حميمية أشعلت في قلوبنا أحاسيس جديدة لم نكن نعرف عنها أيّ شيء! كلانا خاف منها، كلانا لم يعلم ما يفعل بها، أنا بحثت عنها وأنت اختبأت منها، كجبان هرب من أرض المعركة، وترك رفيقه ينزف وحيدًا يزحف نحو الضوء… دعني أخبرك يا أحمد أنّني عبرت الضوء، وها أنا ذا.

الساعة الثالثة إلّا ثلاث عشرة دقيقة بعد منتصف الليل، لا أعلم لماذا أكتب لك، ما الذي جعلك تخطر على بالي! في الحقيقة كانت الشرارة مشهد لطيف من فيلم فرنسي يدعى Arette avec tes mensonges (أرقد بجانبي)، أعاد لي الكثير من العواطف المتخبّطة، يوم كنّا صغارًا أبرياءً نكتشف أنفسنا، ونكتشف حبنا لبعضنا البعض! يومها أحببتك كثيرًا يا أحمد، أحببتك بصدق…

أعاني من الأرق منذ سنوات، سنوات الحرب والخراب، سنوات التشرد والتهجير، سنوات التيه، لكنّه أشتد في الفترة الأخيرة كثيرًا يا “صديقي”. لم أعد أستطع النوم كما الناس العاديين، أحاول أن أواسي نفسي بأن الكثيرون مثلي يصاحبون هدوء الليل وعتمة المساء، لكنني أعلم حقيقة أنّني أهرب من مواجهة الحياة، أختبئ في تلك العتمة كي لا يراني الناس خائفًا مرتعدًا من كل شيء حقيقي.

لم أستطع أن أخبرك يوماً أنّني أحبك، لكنّني كنت دائمًا ما أخبرك بأنّك غالٍ علي، لم أكن أعلم ما الحب آنذاك، كنّا مراهقين اثنين مجروفَين بهرمونات جنسية تسحبنا نحو شهوة محرّمة! أو هكذا ظننت، إلّا اليوم وأنا على أبواب الثلاثين أعلم أنّ ما كنت أحمله لك في قلبي هو شيء نقي صافٍ صادق لا يحتمل الشك، وكنت أرى في عينيك أنّك تحبني! أو هكذا ظننت.

لا أدري ما الذي يجب أن أقوله الآن، هل أعاتبك أنّك رميتني من حياتك كقطعة بالية لم يعد لها أيّ نفع؟ أم أصرخ عليك لأنّك تركتني وحيدًا أصارع شياطيني؟ أم أواسيك لأنّك عانيت ما عانيت ولم يكن أحد في جوارك؟ كنّا أطفالًا لا نعرف كيف يكون الكفاح، تعلّمناه صغارًا في الحرب والمأساة، لكنّ صراعنا الداخلي كان ساحة حرب مشتعلة لم ترقد كلّ تلك السنين، ولم نستطع أن نخمدها ونحن نحن، على ما كنّا نعيشه كمراهقين حُرموا من الحياة.

الثالثة وأربع دقائق، أستمع إلى ماكس ريختشر، مقطوعة نوفمبر، أحاول أن أجمع أفكاري وأكتب لك بتخبّط ما أحاول أن أقوله لك ولو لن تسمعه، في داخلي طفل صغير يصرخ يا أحمد، يبكي بهستيريّة فاجعة ويتمنّى لو أنّه يستطيع الهرب حرًّا من داخلي المليء بأشباح الماضي وذكريات الحياة المريرة، اليوم أنت شبح (ضيف) الشرف في ليلتنا هذه، لكنّ الطفل داخلي سكن بوجودك يا “صديقي”. وضع رأسه بين ساقيه وأخذ النحيب بصوت خافت، أنين مكتوم يعيدني لتلك اللحظات التي كنت أتمنى بها الموت بسببك! كنت خوفي يا أحمد… كان فقدانك بالنسبة لي قصّة رعب لم أستطع تجاوزها بسهولة!

يخبرني صديقي المقرّب -أجل.. لدي صديق مقرب يحبني ويقلق علي ويخاف أن أنزف وحيدًا- يخبرني أنّه علي الابتعاد عن كلّ ما يمكن أن يشعل شرارة الذكريات ويعيد أشباح الماضي، يمكنني القول أنّه منذ أن اتبعت نصيحته قلّت زيارات الكوابيس لأحلامي، وشغلت نفسي بالوهم بعيدًا عن الواقع لكنّني لم أنفصل عنه، إلّا أنّه ليس من السهل النسيان، قد تنسى التفاصيل، لكنّك لا تستطع نسيان الأحاسيس. هناك لحظات فارقة في حياة الإنسان لا يمكنه نسيانها، والعديد من هذه اللحظات الفارقة كانت مآسي بالنسبة لي، وقليلها كان لحظات حب نقي، أو لحظات صفاء بعيد عن العالم، إحدى تلك اللحظات هي عندما أخبرتك أنّني أحبك، من بعيد، دون أن تسمعني، بعد سنوات من الفراق، لحظة كدت أدهسك…

أكتب إليك لأخبرك أنّني أحببت من بعدك يا أحمد، عشت الكثير من القصص الجميلة والقصص المؤلمة، عشت حلاوة البدايات ومرارة النهايات، لكنّك أنت كنت وما زلت حبّي الأول، ولعل ما يقولونه صحيح؛ ما الحب إلّا للحبيب الأول، لكنّني لن أبق واقفًا على أطلالك يا “صديقي”، فلدي الكثير لأحيا من أجله، والكثير من الحب لأمنحه.

كتابة: سيركان كايا