قبل عشرين عامًا، كان فيلم جبل بروكباك Brokeback Mountain مثارًا للسخرية أكثر من كونه مشروعًا فنّيًا واعدًا. فقد رفضت استوديوهات هوليوود مرارًا إنتاجه، وسخر كثيرون من فكرته التي اختُزلت في “فيلم عن رعاة بقر مثليين”.
لكن الزمن كفيل بقلب المعادلات. اليوم، يُحتفى بفيلم جبل بروكباك باعتباره تحفة كلاسيكية غيرت وجه السينما العالمية وخاصةً السينما الكويرية، ووسّعت حدود التعبير الفني عن الحب، والهوية، والانكسارات الإنسانية.
جبل بروكباك.. البدايات الصعبة للفيلم
- كُتب سيناريو الفيلم في أواخر التسعينيات، مقتبسًا عن قصة قصيرة من تأليف الكاتبة آني برولو.
- السيناريو من كتابة ديانا أوسانا ولاري ماكميرتري، وواجه رفضًا تلو الآخر في هوليوود.
- المنتج جيمس شيموس يصف تلك المرحلة بقوله: “كان النص يُعامل كمادة للسخرية… الجميع رفضه.”
في ظل مناخ سياسي محافظ وهيمنة اليمين على الساحة الأمريكية، كان الحديث عن قصة حب بين رجلين في ريف وايومنغ في الستينيات أمرًا غير مقبول، لا سيما حين يُقدّم في قالب “الرومانسية الهوليوودية الكبرى” كما كان يطمح المنتج جيمس شيموس.
اختيار المخرج: لماذا أنغ لي؟
رغم محاولات المنتج جيمس شيموس إسناد الفيلم لمخرج مثلي الجنس في البداية، لم تُكلّل جهوده بالنجاح.
حيث انسحب المخرج غاس فان سانت الذي أخرج أعمالاً سينمائية هامة مثل Psycho وGood Will Hunting، بينما جويل شوماخر الذي أخرج أعمالاً سينمائية مثل The Lost Boys وFalling Down لم يكن مناسبًا.
قرر المنتج أخيرًا إسناد المهمة لصديقه وشريكه الفني القديم، المخرج التايواني أنغ لي والذي أخرج فيلم Sense and Sensibility.
أنغ لي كان وقتها مرهقًا بعد تجربته مع فيلم Hulk، لكنه ظل مشدودًا لنص فيلم Brokeback Mountain، وقرر العودة إليه بعدما أسّس جيمس شيموس شركة “فوكس فيتشرز Focus Features”، ما أتاح التمويل والإنتاج المطلوب.
كواليس اختيار الممثلين: رهانات محفوفة بالمخاطر
رفض عدد من نجوم هوليوود تجسيد الشخصيات الرئيسية، من بينهم مارك والبيرج ومات ديمون، الذين اعتبروا أن التمثيل في “فيلم عن المثليين” قد يؤثر على صورتهم الجماهيرية وحياتهم المهنية في هوليوود.
لكن الاختيار وقع أخيرًا على هيث ليدجر في دور (إنيس) وجيك جيلنهال في دور (جاك)، بينما جسدت آن هاثاواي وميشيل ويليامز دور زوجتيهما.
كان الأداء مفاجئًا ومؤثرًا، خصوصًا هيث ليدجر، الذي ترك بصمة إنسانية رفيعة في واحد من أعظم أدواره السينمائية قبل رحيله المفاجئ عام 2008.
الموضوع والرسالة: حب ممنوع في مواجهة الزمن والمجتمع
بعيدًا عن اختزال القصة في عنوان ساخر، يتمحور Brokeback Mountain حول علاقة حب وجودية ومؤلمة، بين رجلين يعملان كراعِيَيْن في الجبال خلال الستينيات.
تنشأ العلاقة في السرّ، تحت وطأة الخوف والقيود الاجتماعية، وتستمر على مدى سنوات، لكنها لا ترى النور.
أنغ لي وصف الفيلم بقوله: “كان عن حب محظور، لا يمتلك أصحابه حتى اللغة للتعبير عنه. كان مؤلمًا وغامضًا، وظلّ يطاردني.”
ردود الأفعال: من مهرجانات دولية إلى جدل في الداخل الأمريكي
- رفض مهرجان كان اختيار الفيلم، لكن مهرجان فينيسيا منحه جائزة “الأسد الذهبي” وهي أعلى جائزة به.
- أثار الفيلم جدلًا واسعًا مع بداية عرضه، لا سيما في الولايات الأمريكية المحافظة، حيث امتنعت بعض دور السينما عن عرضه.
- رغم ذلك، حقق الفيلم إيرادات تجاوزت 178 مليون دولار عالميًا مقابل ميزانية إنتاج وتنفيذ تقل عن 15 مليون دولار.
الترشيحات والجوائز: الانتصار الناقص
حصل فيلم Brokeback Mountain على 8 ترشيحات أوسكار، وفاز بثلاث منها: أفضل مخرج (أنغ لي)، أفضل سيناريو مقتبس، وأفضل موسيقى تصويرية.
لكنه خسر جائزة أفضل فيلم لصالح فيلم Crash، فيما اعتبره الكثيرون مثالًا صارخًا على تحيّز الأكاديمية وهروبها من الاعتراف العلني بفيلم عن المثليين.
جاك نيكلسون، الذي أعلن اسم الفائز، أعرب عن دهشته في الكواليس وقال: “لم أتوقع هذا… لقد صوّتُّ لفيلم بروكباك ماونتن.”
الإرث الحي: كيف غيّر الفيلم السينما الكويرية؟
- أدرج معهد الفيلم البريطاني الفيلم في المركز الرابع ضمن أعظم أفلام مجتمعات الميم في التاريخ.
- لا يزال يُعتبر من أكثر الأفلام تأثيرًا في الألفية الجديدة.
- ألهم أجيالًا من المخرجين وصنّاع الأفلام على تناول قصص الحب بين المثليين والأشخاص من نفس الجنس بجدية وصدق وجمال.
وقد قال المنتج جيمس شيموس: “أثر الفيلم لم يكن فقط في صالات السينما، بل في آلاف القصص التي تلقيناها عبر موقع إلكتروني أنشأناه خصيصًا لمشاركة المشاهدين قصصهم معنا، وكانت هذه من أكثر اللحظات إنسانية في مسيرتي.”
من التنميط إلى الخلود
ما بدأ كـ “مزحة عن رعاة بقر مثليين”، انتهى كملحمة سينمائية إنسانية خالدة. لم يغير فيلم Brokeback Mountain فقط مفهومنا عن “الرجولة” أو “الحب”، بل كسر الحواجز بين السينما والجمهور حول قضايا مجتمعات الميم، وفتح الباب لتمثيل أكثر تنوعًا وصدقًا وواقعية في هوليوود.
في الذكرى العشرين لهذا الفيلم الاستثنائي، تُقام عروض سينمائية خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول حول العالم يومي 22 و25 يونيو، تعيد تقديمه لجمهور جديد وتُكرّس مكانته كأحد أعظم أفلام الحب في التاريخ.
وبما أن العروض السينمائية لا تشمل دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط، نشجعكمن على مشاهدة الفيلم في المنزل مع شركائكمن أو أصدقائكمن من مجتمعات الميم او مع أنفسكمن.
لا تفوّتوا فرصة مشاهدة هذه التحفة التي تحدّت التنميط، وأسّست لحقبة جديدة من سرديات الحب والمقاومة في السينما العالمية.