يعود المخرج الأمريكي إيرا ساكس (Ira Sachs) بفيلم جديد بعنوان Peter Hujar’s Day (يوم من حياة بيتر هوجار)، ليقدّم سيرة سينمائية غير تقليدية عن المصوّر الفوتوغرافي المثلي بيتر هوجار (Peter Hujar)، أحد أبرز وجوه المشهد الثقافي في نيويورك خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
الفيلم الذي عُرض لأول مرة في مهرجان صندانس (Sundance Film Festival) يناير 2025، حصل على إشادات نقدية واسعة وصلت إلى تقييم %96 على موقع Rotten Tomatoes (روتن توماتوز)، ويستعد الآن للعرض التجاري في الولايات المتحدة في نوفمبر 2025 من خلال شركتي سايدشو (Sideshow) ويانوس فيلمز (Janus Films).
سيرة في شكل «سونيت» سينمائية
بحسب مجلة Variety (فاريتي)، يختلف الفيلم عن السِيَر التقليدية التي تسرد حياة كاملة أو مرحلة حاسمة؛ إذ يركّز على يوم واحد فقط من حياة بيتر هوجار في 18 ديسمبر 1974.
تستند الحكاية إلى محادثة مسجّلة بينه وبين الكاتبة ليندا روزنكرانتز (Linda Rosenkrantz)، تؤديها الممثلة ريبيكا هول (Rebecca Hall).
في ذلك اليوم، طلبت روزنكرانتز من هوجار أن يدوّن كل تفاصيله اليومية، ثم حضر في اليوم التالي إلى شقتها في مانهاتن حيث خاضا حوارًا مطوّلًا سجّلته على شريط كاسيت. لم يكن اليوم مميزًا في حد ذاته، بل العكس تمامًا: العادي واليومي هو ما أراد الفيلم أن يخلّده.

أداء تمثيلي مدهش
الممثل البريطاني بن ويشو (Ben Whishaw)، المعروف بكونه مثلي علنًا، قدّم على مدار السنوات الماضية مجموعة من أبرز الأدوار الكويرية التي رسّخت مكانته كأحد أهم الممثلين في السينما الكويرية والعامة.
من بين هذه الأدوار فيلم Lilting (لحنٌ حزين، 2014) ومسلسل London Spy (جاسوس لندن، 2015)، ومسلسل A Very English Scandal (فضيحة إنجليزية جداً، 2018).
يواصل بن ويشو مسيرته مع أدوار جريئة مثل فيلم Passages (تحوّلات، 2023) للمخرج إيرا ساكس، الذي استكشف تعقيدات العلاقات المثلية والثلاثية.
هذه الخلفية تجعل تجسيده لشخصية المصور بيتر هوجار في Peter Hujar’s Day (يوم من حياة بيتر هوجار) امتدادًا طبيعيًا لمسيرته الفنية، إذ يظهر هنا بصدق شديد: مصور مثلي، حالم، ساخر، مرهف ومثقل في الوقت نفسه. مظهره المتعب واللحية الخفيفة وصوته الممزوج بلكنة نيوجيرسي الشعبية يعيدون بناء صورة الفنان الذي عاش في قلب الثقافة الكويرية لنيويورك.
وتؤدي ريبيكا هول شخصية روزنكرانتز التي تكتفي أغلب الوقت بالاستماع والتحفيز، في علاقة صداقة تكشف الكثير عن الحميمية الكويرية في زمن ما قبل الإنترنت ووسائل التواصل.
حوار يتحول إلى مرآة للزمن
الفيلم لا يقدّم حبكة درامية تقليدية، بل يعتمد بالكامل على الحوار بين الشخصيتين. من خلال حديث هوجار عن يومه، نستمع لتفاصيل تبدو بسيطة لكنها تكوّن صورة بانورامية عن تلك المرحلة: جلسة تصوير للشاعر ألين غينسبرغ (Allen Ginsberg) لصالح نيويورك تايمز (The New York Times)، مكالمات هاتفية مع المفكرة سوزان سونتاغ (Susan Sontag)، خلافات حول أجور لم تُدفع بعد، وحتى شراء سندويتش من نوع أوسكار ماير (Oscar Mayer). هذه التفاصيل اليومية العادية تتحوّل إلى مادة فلسفية وفنية عن معنى الوقت والحياة.
المخرج إيرا ساكس، صاحب الأعمال السينمائية الكويرية البارزة مثل Keep the Lights On (لا تطفئ الأضواء) وLove Is Strange (غريب الحب)، استوحى من نص المحادثة المسجّلة ليحوّلها إلى فيلم أقرب إلى «سونيت» سينمائية، أي قصيدة قصيرة تحتفي باليومي وتجعله خالدًا.
بيتر هوجار: أيقونة مثليّة في صورة
بيتر هوجار، الذي توفي عام 1987 بسبب مضاعفات مرض الإيدز، يُعتبر أحد أهم المصورين في مشهد نيويورك الكويري.
عُرف بأعماله التي توثّق أجساد الرجال العراة، وصوره الأيقونية لحركة تحرير المثليين، بما في ذلك صورة Come Out! (اخرج!) التي أصبحت شعارًا لـ جبهة تحرير المثليين (Gay Liberation Front) بعد أحداث ستونوول (Stonewall) عام 1969.
كان معاصرًا للمصور الشهير روبرت مابلثورب (Robert Mapplethorpe)، لكنه غالبًا ما اعتُبر أكثر صدقًا وحميمية في تصويره للهويات الكويرية.
إنتاج وتوزيع
بعد عرضه الأول في صندانس، أعلنت شركتا Sideshow وJanus Films استحواذهما على حقوق التوزيع في أمريكا الشمالية، مع خطة لإطلاقه تجاريًا في نوفمبر 2025.
ومن المقرر أيضًا أن يشارك الفيلم في مهرجان برلين السينمائي (Berlinale) ضمن قسم بانوراما (Panorama)، وهو القسم المعروف بتركيزه على الأعمال الكويرية والتجريبية.
المخرج إيرا ساكس قال في بيان: «أن أعمل مع سايدشو ويانوس فيلمز يعني الكثير لي كفنان ومشاهد. هذا الفيلم يعبّر عن الأمل، وعن السينما كأداة لاكتشاف الزمن والحياة».
أما الشركتان فقد وصفتا الفيلم بأنه «عمل عميق وبالغ الجمال، يكشف لنا كيف يمكن لفن السينما أن يلتقط طبيعة الزمن وما يتركه في حياتنا».
أهمية الفيلم في السينما الكويرية
يمثل Peter Hujar’s Day إضافة نوعية للسينما الكويرية التي تسعى إلى إعادة الاعتبار لشخصيات فنية مثليّة طُمست في حياتها، ولم تنل شهرتها إلا بعد رحيلها.
الفيلم لا يقدّم الهوية والتجارب المثلية كموضوع جانبي، بل كجوهر حياة الفنان نفسه، من يومياته البسيطة إلى طموحه الفني، من صداقاته مع مثقفي نيويورك إلى معاناته المالية.
الأداء الرقيق لبن ويشو يُعيد التأكيد على قدرته في تجسيد شخصيات كويرية بعمق بعيد عن النمطية، بينما تمنح ريبيكا هول للفيلم توازنًا وحوارًا غنيًا.
النتيجة عمل سينمائي قد يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه يحمل رؤية فلسفية حول معنى أن تكون مثليًا، فنانًا، وإنسانًا في زمن مليء بالتحولات.
فيلم Peter Hujar’s Day ليس مجرد سيرة عن مصور مثلي عاش في نيويورك السبعينيات؛ إنه مرثية للزمن الضائع، واحتفاء بقدرة الحوار واليومي على أن يصبحا فناً خالدًا.
ومع قرب عرضه التجاري في نوفمبر 2025، يبدو واضحًا أن العمل سيشكّل محطة مهمة في السينما الكويرية، ليس فقط لأنه يكرّم فنانًا مهمشًا، بل لأنه يقدّم رؤيا شعرية عن معنى الهوية والفن والحرية.