أطياف

موسيقى الديسكو واحتضان الاختلاف

من لم يسمع منا عن موسيقى الديسكو؟ من لم يسمع منا عن كلمة ديسكو وراوده العديد من الخيالات عن الحياة الليلية البراقة في الملاهي، حيث تدور كرة الديسكو العاكسة للأضواء الزاهية فوق حلبة الرقص، ثم يهتف مُنسِّق الموسيقَى على جميع الحاضرين الذين يرتدون ملابس فضفاضة وزاهية تناسب أجواء هذا المكان حتى تشهد حلبة الرقص التعددية والتنوع، من جميع الأعراق والثقافات والهويات الجنسية والجندرية، وتمتزج جيدًا مع الموسيقى الراقصة التي يقوم بتشغيلها مُنسِّق الموسيقَى، وتمتزج الإيقاعات مع حركات أجسادهم التي لا تهدأ إلا عند بزوغ الفجر مثل لوحة كبيرة من الأعمال التجريبية المعاصرة أو إحدى لوحات فن البوب الأميركي. نعم، هذه موسيقى الديسكو أو ثقافة الديسكو التي تعد مزيجًا من عدة ثقافات مختلفة سواء في الملابس والأزياء أو الخصائص الموسيقية نفسها، في الحقيقة موسيقى الديسكو هي عبارة عن تطور عدة أنواع من الموسيقى الراقصة التي ظهرت في أربعينات القرن الماضي مع ظهور الملاهي الليلية الراقصة في باريس أثناء الاحتلال النازي، ويعد مصطلح «ديسكو» اختصارًا لكلمة «ديسكوتيك»، وهي كلمة فرنسية كانت تطلق على الملاهي الليلية الراقصة في فرنسا، وكان لكلمة «ديسكوتيك» نفس المعنى في اللغة الإنجليزية في الخمسينيات من القرن الماضي.

 ومع انتشار صيت الملاهي الليلية، ازداد الطلب على الموسيقى ذات الإيقاع الصاخب أو السريع التي تتناسب مع أجواء الملاهي الليلية، فظهرت موسيقى «ريذم أند بلوز» وموسيقى «فانك» في الستينات، وموسيقى الديسكو في سبعينات القرن الماضي.

 بدأت موسيقى الديسكو في الظهور في أواخر الستينات في مدينة نيويورك، وقابلت رواجاً شديداً في الحفلات الخاصة التي كانت تقام في المنازل المستأجرة، التي كانت تعد ملاذاً للأقليات، خاصة أفراد المجتمع الكويري، وقد ابتكر تلك الحفلات منسق الموسيقى النيويوركي ديفيد مانكوسو، وكان يقتصر حضور تلك الحفلات على المدعوين فقط، حيث لا يمكن حضور أي فرد دون دعوة خاصة من صاحب الحفل أو أحد المدعوين، حيث سمحت تلك الحفلات الخاصة لأفراد المجتمع الكويري بالتصرف على حريتهم، وظهور التعبير الجندري الغير نمطي، من ارتداء الملابس ووضع المكياج والأداء، والذي كان يعد أمراً غير قانونياً في الملاهي الليلية العامة في نيويورك، مما كان يعرض أفراد المجتمع الكويري غير النمطيين للمضايقات من قِبل الشرطة الأمريكية في الأماكن العامة، بتهمة التشبه بالجنس الآخر، أو الرقص الحميمي مع نفس الجنس، أو تبادل القبل، واستمر ذلك لعدة سنوات، وتعرضت الحانات التي اعتاد أفراد المجتمع الكويري التواجد فيها إلى هجمات متكررة في فترة الستينات، مثل الحانات المتواجدة في قرية جرينويتش بمانهاتن في نيويورك.

 وساعد ذلك على انتشار موسيقى الديسكو بين الأقليات، التي ارتأت أن موسيقى الديسكو تتناول العديد من القضايا المهمة أو قضايا تعد غير مقبولة في المجتمع الأمريكي حينها، والتي لم يتناولها أي نوع آخر من الموسيقى، بل اعتبرها العديد من صناع الموسيقى والمنتجين ملاذاً ومهرباً من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية السلبية التي خلفتها فترة الستينات مثل حرب فيتنام.

والبعض رأى موسيقى الديسكو على أنها كسر للنمطية وحركة قوية للتخلص من ظاهرة «الغزو البريطاني» التي اجتاحت متاجر الموسيقى في الولايات المتحدة الأمريكية في منتصف الستينات، حيث استطاعت العديد من الفرق الإنجليزية مثل البيتلز في التأثير على الثقافة الأمريكية ونشر موسيقى الروك وجعلها مهيمنة في صناعة الموسيقى، حيث أصبحت رائجة في الساحة خلال فترة وجيزة، مما أصاب صناعة الموسيقى بالركود والاحتكار من الفرق الموسيقية الإنجليزية التي كانت تتميز بغير النمطية في الصفات الظاهرية من ملابس وأساليب الغناء المتبعة، وإبراز مواضيع مثل تعاطي المخدرات في موسيقاهم.

 أما موسيقى «سايكدلك روك»، فقد احتوت على كراهية لفئات مجتمعية معينة، مثل كراهية المثليين وكراهية النساء والتمييز العرقي والتشجيع على العنف الأسري والتحرش اللفظي الصريح في الكلمات، وعادة كان يقوم بغنائها وكتاباتها مطربين ذكور وفرق موسيقية تتألف من عازفين ومطربين ذكور فقط، ولذلك لاقت موسيقى الديسكو دعماً من الداعمين والمنخرطين في الحركة النسوية وكذلك الداعمين والمنخرطين في الحركة الكويرية، كما لاقت استحسان وقبول مُنسِّقين الموسيقَى ومحبي موسيقى «ريذم أند بلوز» وأفراد المجتمع الكويري.

وخاصة أفراد المجتمع الكويري من أصحاب البشرة الملونة واللاتينيين، وذلك لتشابه خصائص موسيقى الديسكو مع بعض أنواع الموسيقى الأخرى التي كانت تعد جزءًا مهمًا في ثقافة الأفارقة الأمريكان واللاتينيين الأمريكان.

مثل موسيقى «فانك أند جوسبل»، مما أتاح فرصة كبيرة لمغنيين من البشرة الملونة وخاصة النساء في تشكيل الفرق الموسيقية الخاصة بموسيقى الديسكو والغناء في بعض الملاهي الليلية الكبيرة في أنحاء مدينة نيويورك، وتقديم شركات مثل شركة «تسجيلات موتاون» عروض تعاقد على الفرق الموسيقية لتسجيل أقراص موسيقى الديسكو.

وساعدت موجة ثقافة الديسكو فنانين من المجتمع الكويري مثل مقدمي العروض الترفيهية النسائية والرجالية في الظهور في العروض الموسيقية للملاهي الليلية مثل عروض المحاكاة الشفاهية الأدائية للأغاني، وازداد الطلب على الراقصين المثليين الذين يتميزون بصفات ظاهرية خاصة مثل العضلات المفتولة والسراويل الضيقة الذهبية، للظهور في الفيديوهات الموسيقية المصورة، حيث كان يطلق عليهم باللغة الدارجة في ثقافة المجتمع الكويري «الرجال الفُحُول».

وأصبحت موسيقى الديسكو الموسيقى الرئيسية في حفلات مقدمي العروض الترفيهية النسائية من الرجال في منتصف السبعينات، كما أصبحت إحدى الموضوعات المهمة التي اتبعتها صالات الرقص، حيث كان يجتمع أفراد المجتمع الكويري الملونين لإقامة الحفلات ومسابقات الأزياء والرقص والتقمص والأداء، حيث قام مقدمي العروض الترفيهية النسائية من الرجال في مسابقات المحاكاة الشفاهية بعمل محاكاة لبعض رموز موسيقى الديسكو مثل دونا سمر وديانا روس، حيث تعد أغنيتها I’m coming out، من أكثر الأغاني تأثيرًا في المجتمع الكويري، حيث ساعدت وشجعت العديد من أفراد المجتمع الكويري على الإعلان عن هوياتهم الجنسية وتقبلها في فترة لم يكن من السهل فعل ذلك، وجلوريا جاينور التي أصبحت أغنيتها I Will Survive، إحدى أهم الأغاني في الثقافة الكويرية وعلامة بارزة في تاريخ موسيقى الديسكو، وتعد كذلك من أهم الأغاني الراقصة للمجتمع الكويري، حيث يتم تشغيلها في مسيرات الفخر التي ظهرت بعد مداهمة الشرطة ملهى ستونوول 1969 في نيويورك، حيث اعتاد الترانس والرجال المثليين ومزدوجي الميل الجنسي التواجد، كما أصبحت الأغنية إحدى الأناشيد المهمة لدعم المتعايشين مع فيروس نقص المناعة المكتسب والمصابين بمرض الإيدز أثناء تفشي وباء الإيدز في الثمانينات، وإحدى الأناشيد الرئيسية للناشطين والمنظمات التي نشطت وتنشط في الدفاع عن حقوق المتعايشين مع فيروس نقص المناعة المكتسب والمصابين بمرض الإيدز.

ساعدت موسيقى الديسكو في إظهار الجوانب الإبداعية لدى الكتاب والملحنين، وظهر جلياً في اختيار الألحان والمواضيع الغير مقبولة مجتمعيًا والدعوة إلى التحرر الجنسي ومناقشة العلاقات المثلية وازدواجية الميل الجنسي، كما استخدمها العديد في صناعة الأفلام الجنسية، كالموضوع الموسيقي الأساسي للمشاهد الرئيسية للفيلم، حتى أصبحت الموسيقى الأولى المستخدمة في صناعة أفلام المثليين الجنسية في السبعينات، كذلك ظهرت موسيقى الديسكو في بعض الأفلام الكبيرة التي أنتجتها هوليوود مثل Saturday night fever، وبعض الأفلام الموسيقية مثل thank god it’s Friday، الذي حازت عليه المغنية دونا سمر علي جائزة أوسكار لأفضل أغنية أصلية، مما ساعد ذلك على انتشار موسيقى الديسكو على نطاق أكبر خارج الولايات المتحدة الأمريكية.

 وظهرت جوانب الإبداع أيضًا في تصاميم الرقصات الجديدة، مثل رقصة the hustle، وكان لموسيقى الديسكو تأثيرًا كبيرًا في الأزياء، حيث ظهرت الفساتين الفضفاضة الشفافة، والكنزات المكشوفة، والسراويل القصيرة المصنوعة من نسيج السباندكس، والقمصان الزاهية للرجال التي اعتبرها بعض أفراد المجتمع الكويري مناسبة وتعبر عن هويتهم بشكل أكبر. ساعدت موسيقى الديسكو حركة الخروج عن النمطية الجندرية، وهي حركة تساهم في الخروج عن ومخالفة الأدوار الجندرية المتصورة وكذلك الصور النمطية الجندرية، من حيث ظهورها في الموسيقى السائدة وفي الفيديوهات الموسيقية، من حيث الأزياء والرقص وفي أساليب الغناء ايضًا.

حيث اشترطت موسيقى الديسكو اختيار الطبقات الصوتية العالية في الغناء، والمغنيين ذو الخبرة في غناء موسيقى «السول أند جوسبل» التي تناسب إيقاعات وأجواء الموسيقى، مما أدى إلى اختيار مغنيين ذكور ذو طبقات عالية في الغناء اعتبرها العديد ناعمة أو رقيقة، ووقع اختيار الأصوات النسائية على الأصوات الغليظة أو الخشنة، مما أعطى موسيقى الديسكو طابع أنثوي وذكري في آن واحد، تمتزج فيه الخصائص والأنماط الجندرية الأنثوية والذكرية، مما يجعل من موسيقى الديسكو حاضنة للاختلاف.

كتابة: محمد إبراهيم