تحذير: يحتوي المقال على قصص عنيفة، قد يجدها البعض غير مريحة، كما قد تحفز ذكريات مؤلمة. تتضمن القصص؛ عنف لفظي وكتابة عن الانتحار والإعدام.
*في التدوينة أدناه استخدم الكاتب مصطلحات لا تمثله ولا تعبر عن رأيه ولا يقبل بها إلا أنّه لضرورة النقل تركها كما هي، كما حدثت في الواقع، بحرفيتها.
في ذاك الصيف أخبرته بهويتي .. لم أكن أعلم ما الذي يمكن أن تكون ردّة فعله.. كلّ ما أذكره أنّ تفكيره كان مختلفًا.. لم يتقبّلني..
“أخبرني أنّك تمازحني!، أنت لستَ شاذّاً لكنّه مقلب تفعله بي!” سألني وكل علامات التعجّب على وجهه، أخبرته أنّني جادّ جدًا: “إنّك تعني لي الكثير يا صديقي، أحتاج أن أُخبر أحدًا ما بسرّي -المخزي- فاخترتك أنت”
صمت بضع دقائق، نظر إليّ نظرة لن أنساها ما حييت، نظرة استحقار كأنّني قاتل، نظرة اشمئزاز كأنّني مُغتصب أطفال، نظرة مليئة بالحقد والكراهية والكثير من خيبة الأمل. شعرت في تلك اللحظة كأنّني حشرة أمامه تنتظر أن يدهسها بقدمه. تمالكت نفسي، أعدت القناع الذي كنت أضعه طيلة حياتي، أطلقت ضحكة مدوّية ملأت أرجاء الغرفة وأصبحتُ أتمتم ببضع كلمات غير مفهومة وكأنّني أحاول أن أقول له: “لقد نلتُ منك، هل حقًا صدّقتني!”
هنا تغيّرت ملامح وجهه قليلًا، اعتلاها شيء من الحيرة والكثير من الارتياح، شعر بأنّني حقًا كنت أُمازحه، أو أنّه مال إلى تصديق هذا الأمر رغم جدّيتي المطلقة عندما أخبرته بتوجّهي الجنسي الذي شكّل هويتي وشخصيتي، لكنّني حينها أصبحت بنظره خائنًا، لماذا ولمن ليس مهمًا، فقط أنا خائن لأنّني أنا كما أنا، بدون أدنى خيار لجنسانيتي كما لون بشرتي كما طول قامتي!
أطلق ابتسامة منهكة، نكزني بيده وقال لي: “لقد أخفتني يا أخي، لوهلة كنت سأقوم وأمضي، لا أدري إلى أين ولا ما الذي يجب أن أفعله، لقد صدمتني حقًّا!” .. “هوّن عليك صديقي، كنت أحاول أن أرى ردة فعلك على أمر خاص، ولا ألومك على ردّة فعلك، فأنت لم تظن للحظة أنّني من الممكن أن أخبرك أمرًا كهذا” أجبته. تابع حديثه: “أرجوك لا تفتح معي هذا الحديث مجدّدًا، فأنا لا أتحمّل هكذا موضوع، أنا أشمئزّ من أولئك اللوطيين ولا أتخيل أنّني في يوم من الأيام أن أتواجد مع أحدهم في مكان، لا أدري ربما قتلته!”،
أطلقت ضحكة خفيفة وأخبرته أن يهوّن عليه، لكنّني في داخلي كنت أغلي، ودّدت لو أنني وقفت آنذاك وتحديّته أن يضربني، تمنيت أن أضربه، أن أدافع عن نفسي، عن من هم مثلي، عن كلّ المستضعفين في هذه الدنيا، لكنّني صمت، مبتسمًا ابتسامة حمقاء أتت مع القناع الذي ألبسه منذ أن بدأت معرفة نفسي وأصبحت أخاف أن أخسر من حولي أو الأسوأ؛ أن أخسر حياتي.
…
في مجتمع عربي محافظ كان الموت للمثليين ليس ببعيد، أنا عن نفسي شهدت حكم إعدام ميداني لطفل مثلي في سوريا على يد الجماعات المتطرفة، كنت في الثامنة عشر من عمري، لم يكن الشاب أصغر مني بأكثر من سنتين، لكنّني ومن يومها أصبحت خائفًا من كلّ شيء، وأضحت ترافقني الكوابيس!
صديقي “مجد” لم يكن من بيئة متديّنة، ولا من بيئة محافظة متشدّدة، لم يكن يصلي ولم يكن يعلم الكثير عن الدين، إلّا أنّه كما كثير من السوريين، التديّن لديهم عبارة عن تديّن مجتمعي، ثقافة جمعيّة فيها الكثير من المحرّمات، من المقبول القيام ببعضها لكن هناك خطوط حمراء لا يجب تجاوزها، أسوأ خط أحمر كان أن تكون مثليًّا (وكأنّ لك الخيار بذلك!)
لا يقبل المجتمع بالمثليّة كأمر واقع وبالتأكيد لا يقبل بها كأمر طبيعي، بالحقيقة ينظر هذا المجتمع إلى أنّها وباء أتى من الغرب ليفكّك المجتمع ليدمّر الأسرة ويبعد الناس عن الدين -الدين نفسه الذي لا يعرفون عنه أي شيء-، ويرى أنّ من أصابته هذه اللعنة لأنّه عرّض نفسه للمغريات والموبقات، وانجرف وراء شهوة “شاذة” لا تمسّ للفطرة بأيّ شيء (ولعلّ حملة فطرة التي انتشرت السنة الماضية أكبر دليل)، يرون أنّه مريض، منحرف أو بأحسن الأحوال يرونه مُبتلى وعليه التوبة والصوم والابتعاد عن المغريات، مما يعني أنّه عليه أن يحبس نفسه في منزله وحتّى إن فعل ذلك فسيبقى حبيس أفكاره ومخيلته!
المثير للسخرية هنا أنّهم يطلبون من المثليين أن “يزهدوا” في الحياة، في حين أنّه من حقهم هم أن يتزوجوا ويبنوا أسرهم، ولا ضير إن هم اختاروا أن يلعبوا خارج إطار الزواج، لكن إن أحب المثلي شاباً مثله فقد نزلت عليه كل اللعنات، وعليه أن يتطهر وإان استطاع فعليه أن “يخصي نفسه”!تذكرت “مجد” عندما عرض اليوتيوب أغنية لـ “عزيز مرقة”، الفنّان العربي الذي يغنّي بنمط البديل، عرّفني عليه مجد عام 2016 وأصبحنا نستمع له كثيراً ونحن سوية. أحببت مجد بصدق، وهو أحبني لدرجة أنّه كان يستشيرني بكلّ أمر في حياته، مجد كان حزينًا بشكل دائم بعدما فقد أمه وتعرّض للإهمال ممن حوله من عائلته، كانت تراوده الكثير من الأفكار السوداء التي كان يشاطرني بها لأخفّف عنه وأقدّم له كتفي لكي يبكي عليه، مجد الذي لم يستطع أن يتقبّل جزءًا منّي لم أختره، اختار الخروج من الحياة بنفسه، ارتكب واحدة من “الكبائر” في دينه، لم يعد يحتمل العيش وقتل نفسه، لا أدري أين هو الآن لكنّني أتمنى من كلّ قلبي أنّه في مكان أفضل، تملؤه السكينة والسلام برفقة أمه، لعلّه وقتها يستطيع أن يفهم لما أطلقت تلك الضحكة الصارخة الحاملة في طيّاتها قهر حياة مليئة بالأسى والهروب.
كتابة: سيركان كايا