أسد يلا فيه ايه؟ بهذه الجملة البسيطة التي انحدرت من “مسرح مصر” إلى ساحات الكوميكس والشوارع وبين المراهقين في المدارس وصالات الجيم،
تُختّصر كلمات الإرهاب المجتمعي لكل ذي اختلافٍ أو ضعف، لا سيما إذا اجتمعت مع سباق الذكورة لإثبات من هو صاحب العضلة الأقوى والعضو الأطول والعلاقات الأكثر.
هكذا يمر المثليين في بعض الأحيان خلال رحلة حياتهم واكتشافهم لميولهم الجنسية والعاطفية بحالة من الرفض الذاتي والإنكار لتلك الميول التي طالما لقِنوا بأنها “شاذة” ولا تتوافق مع طبيعتهم البيولوجية.
فمنذ ميلادهم يحدد لهم أهلهم لون الملابس المرادف لنوعهم البيولوجي، ومع نعومة أظافرهم يُحددوا لهم نوع اللعب الذي يجب أن يلعبوا بها حتى لا يستأنس الصبي نعومة في اللعب مع الدمية وبالطبع لا يروق لهم أن تخرج ابنتهم للعب الكرة مع أقرانها في الشارع الذي هو حكر على من حالفه الحظ لإمتلاك العضو الذكري بين فخذيه.
تعضد المعتقدات الدينية السائدة عند أغلب أفراد مجتمعنا المصري هذا الرفض الذاتي والصراع الداخلي. إبان هذه المرحلة غير المستقرة، تدخل الطفيليات والأمراض المجتمعية وتجد مستقرها في المنتفعين من أنصاف المتعلمين الحاملين للشهادات الطبية شكلاً والملتحفين بلباس الدين الأبوي وابتسامة الدهناء باطناً ليدللوا على بضاعتهم الراكدة التي عفى عنها الدهر.
العلم ومحاولة قتل المثليين والترانس
على مر تاريخ طويل من مناهضة الميول المثلية في الغرب، دأب مُحللي العلوم النفسية في إيجاد حلول علمية لوقف التنوع في الهويات الجندرية والميول الجنسية التي لا ترغب فيها الفاشية الأبوية.
وصل الأمر بالدكتور “يوجين شتاينخ” أخصائي الغدد الصماء النمساوي في أوائل القرن الماضي بإجراء عملية جراحية لرجل مثلي ليزرع له خصية رجل غيريّ ظناً منه أنه بهذا سيقضي على مثلية ذلك الرجل إلى الأبد، إلا أنه – ومع الأسف الشديد – أضرت هذه العملية الجراحية بالشخص ورفض جهازه المناعي تلك الخصيتين المزروعتين؛ والتاريخ يعج بعشرات الأمثلة للتجارب الإكلينيكية والنفسية التي ترقى إلى التعذيب شديد القسوة والتي دأب عليها أصحاب العلم والمعرفة في إملائهم للعلم ما تنص عليه الأيديولوجيات الذكورية والنظام الأبوي.
حتى فرويد الذي ينسب له بعض المحللين النفسيين جذور شذوذهم العلمي والعقلي لما يسمى بـ العلاج التحويلي أو علاج المثلية يرد في رسالته على سيدة خاطبته ليقوم بعلاج ابنها المثلي عام 1934 قائلاً: “لقد فهمت من خطابك أن ابنك مثليّ جنسياً… ليس هناك سمة عار، ولا رذيلة، ولا نقيصة في ذلك. لا يمكن تصنيف ذلك على أنه مرض.”
بهذه الكلمات الموجزة عبّر فرويد في قمة عطاءه العلمي وقُبيل عام واحد على رحيله عن العالم على طلب إحدى مُريديه لتطبيق ما يُدعى بالعلاج التحويلي، وهذا ما أكده علماء النفس المعاصرين ومنظمة الصحة العالمية بالإضافة إلى المنظمات الصحية العالمية في البلاد التي تنتج العلم بالأساس؛ ولكن هذا جميعه لا يكفي لميديكورات الاستهلاك العلمي – غير المنتج للعلم – في السوق المحلي، إذ أنه يتقاطع بصورة مباشرة مع مصالحهم الشخصية ومصالح السلطة والمال إذ يُخرِج أجساد المواطنين خارج سلطة التحكم الديني والسياسي.
شهادات من أرض الواقع
الهدف كان إبعادي عن أي دواير داعمة ليا أو حتى شخص متقبل نفسه بأي شكل
ذهبنا في تحقيق استقصائي نوعي استهدف بعض المثليين والمثليات ولا ثنائيي الجندر في المجتمع المصري الذين مروا أو لا زالوا يمرون بتجربة ما يُسمى بالعلاج التحويلي للميول الجنسية أو علاج المثلية، وطرحنا عليهم بعض الأسئلة التي تساعدنا في فهم أبعاد الأمر في محافظات مختلفة بالقُطر المصري، وإليكم بعض الخبرات التي تساعدنا في التعرف على تجارب بعض الذين/اللائي خاضوا تجربة ما يُسمى بالعلاج التحويلي أو التعافي كما يدعوه مروجيه.
كلامي بيصطدم بكم مهول من الأفكار النمطية عنده عن المثلية فكان بيشكك في كلامي وفي مصداقيته إنه أزاي عندي ميول مثلية ومش نشط جنسيآ ولا حتي عمري عملت علاقة جسدية واحدة، العلاج المزعوم اللي كان بيقدمه كان وعظ ديني وأخلاقي ممتزج بخطاب أبوي بعيد عن الطب النفسي .. الهدف كان إبعادي عن أي دواير داعمة ليا أو حتى شخص متقبل نفسه بأي شكل
آدم (23 سنة)، كان يتردد على طبيب نفسي يُدعى (محمـد ابراهيم بيومي)
بروح يومين في الأسبوع بقالي 11 شهر. المفروض أني بأتعالج وكده، لكن مفيش أي جديد. لسة الميول عندي، بس للأسف بروح بسبب أهلي.”
أحمد (17 سنة)، لا زال يتردد على أطباء نفسيين
وعند سؤاله إذا كان يشعر بأي تغيّر ما من وجهة نظره خلال رحلة ما يٌسمى بالعلاج، أجاب: “لأ بالعكس، بقيت مقتنع أكتر أني Gay”.
وعن الشهادة القادمة، فقد لجأ صاحبها لـ أوسم وصفي بعدما تعرف عليه من خلال التلفزيون ومنصات التواصل الإجتماعي. حيث عملت القنوات التلفزيوينة والصحف منذ 2011 وبشكل مكثف على تخصيص مساحة للأطباء وحتى من هم ليسوا أطباء ولكنهم يدعون تغيير الهوية الجنسية للفرد. فعرفهم الشارع المصري وعرف معاهم خرافة أن التوجهات الجنسية والهوية الجندرية يمكن تغييرها من خلال بروتوكول طبي.
الجلسات كانت قصيرة، اداني كتاب اسمه شفاء الحب، كان أسلوبه متعالي وغير مهني ومدانيش حتى فرصه إني أتكلم، ومعظم كلامه كان بيتمحور حوالين إزاي إني مريض وأن السبب غالبا أهلي وافتقاري لصورة الأب، وإني ضد الطبيعة ووجودي فيها شاذ وبيغضب الرب.”
“لما قرأت قصص ‘المتعافين’ من المثلية – زي ما بيقول – رفضت أن يكون ده شكل حياتي، كمية كره الذات وإزاي كنت رافض أهلي و,الدي، واقتناعي التام إني شاذ عن الطبيعة غضبان عليًّ ربنا، مقدرتش أكمل حياتي بالاسلوب ده!” وبسؤاله إذا ما كانت خبرته تلك أحدثت تغيراً في وجهة نظره عن المدعو العلاج التحويلي، أجاب: “أدركت إن ميولي الجنسية مش مرض، وإن معظم مدعيين الطب النفسي غرضهم وأولوياتهم الفلوس والماديات مش الصحة النفسية للناس اللي بيلجأولهم ، وأن كل مدعين العلاج بيتكلموا عن شيء هم نفسهم مش فاهمينه.
مروان (21 سنة)، كان يتابع مع أوسم وصفي
أما نور (27 سنة) وهمن لا ثنائي/ات الجندر يحكوا لنا أنهمن كانوا قد تعرفروا على الطبيب المشهور في دجل العلاج التحويلي المدعو “أوسم وصفي” من خلال كتابه “شفاء الحب” وكانوا يتابعوا مقاطع الفيديو الخاصة به من خلال شبكة الإنترنت. أكدوا نور أنهمن توقفوا عن متابعة هذا الطبيب بعدما وجدوه غير منطقي وليس له أي دليل أو صحة على حد تعبيرهمن.
أما سارة (31 سنة) فقد لجأت إلى طبيبين مختلفين علمت بهم عن طريق الأهل حيث أمضت مع المدعو “محب سالم” 3 سنوات كاملة، بالإضافة إلى حوالي سنة ونصف آخرين مع طبيبة أخرى.
وعن تجربتها، حكت لنا سارة: “المفروض أني كنت رايحة أتعالج من المثلية وأني عندي مرض ليه علاج نفسي، بس مع الأسف كل اللي كان بيحصل إني باخد مهديء أعصاب ومنوم وشويه مضادات اكتئاب وغير كلامهم عن إنى رايحة نار جهنم.”
وتردف سارة: “طلب مني إني أعمل علاقة مع ولد.” هذا وكان يؤنبها بأنها تقوم بأمر “ضد الطبيعة وعكس الفطرة” على حد وصفه.
سارة تروي لنا أن عمرها كان 17 سنة فقط عندما خاضت هذه التجربة المريرة التي ملئتها بالرعب واستمرت في تعاطي الأدوية على أمل التغيير وتحت ضغط الأهل.
تقول سارة في حزن: “كلامهم اللي جابلي اكتئاب… من كلامهم… من كتر الخوف.”
وبسؤالها عما إذا تغيّرت وجهة نظرها عن العلاج التحويلي بعد تجربتها هذه، أجابت: “مفيش حاجة اسمها علاج. إحنا ماعندناش مرض عشان يبقى فيه علاج.”
وأسهبت: “ياريت فعلاً الموضوع ده ينتهي لأن فيه ناس لسة بتعاني لحد دلوقتي.”
أما كمال (20 سنة) فقد ذهب إلى “جمال فرويز” بعدما سمع عنه من خلال فيسبوك ويحكي لنا: “أعطاني دواء قوي وصعب جدا وهو Perxal 5 وseroxet 25 وكنت دائماً كثير النوم وكثير الأكل ودائماً تايه… زاد وزني دون أي فائدة.”
ويزيد كمال: “كنت أذهب إليه كل يوم أحد حيث يوم علاج المثليين. لم يعطنى نصيحة واحدة! كل ما كان يفعله هى جلسة لكده، ربع ساعة بـ250 جنيه، يسألني فيها عن أفعالي وانجذاباتى ثم بعد ذلك يعالجنى بجهاز التنويم الخاص به ولا أعلم ما هذا الجهاز حتى!”
وبسؤاله عن أسباب توقفه عن العلاج، أكد كمال عدم وجود أي جدوى أو حتى نزوح إلى التغيير ولو كان بسيطاً رغم صعوبة الدواء والمال الكثير الذي يستنزفه الطبيب بادعاء العلاج.
يروي لنا كمال أن نظرته لما يسمى بالعلاج التحويلي ليست عن فراغ. هو أيضاً بذل مجهود فردي مضاعف ويقول: “قمت بعد ذلك بشراء كتب عن علاج المثلية… كتاب ‘الاخر القريب’، وكتاب ‘رحلة رجل’، وكتاب ‘التدريبات العملية للشفاء من الميول المثلية’ ورغم ذلك فشلت أنا أيضا فى أي نوع من ذلك بل كان عبارة عن كبت للمشاعر والأحاسيس والحب… حتى التواصل.”
في مصلحة من؟
في الواقع، وبعدما عبرنا من خلال هذه التجارب المريرة التي وإن أُختصِرت في كلمات يظل وقعها أثقل وأصعب على كل من خاض فيها، يظل التساؤل… لماذا؟ وفي مصلحة من؟
شباب وشابات أبرياء يتم تشويه الحب في حياتهم، وحرمانهم من أبسط حقوقهم في أن يحيوا حياتهم كيفما وجدوا نفسهم عليها.
كثير من الدول أدركت خطورة هذه الممارسات الفادحة، وأسماء كالتي سُردت بالأعلى إذا صرحت بعملهم فيما يسمى بالعلاج التحويلي لما وجدوا لهم مقعداً في أي محفل علمي على الصعيد الدولي في مصاف أصحاب العلم والطب.
لا يقف أمر هؤلاء الدجالين عند الشذوذ عن العلم وأبحاثه وممارساته إلى حد الحرمان من ممارسة المهنة بقوة القوانين النقابية، بل مجرد محاولتهم لتقديم هذا الدجل في بعض دول العالم المتحضر يضعهم تحت طائلة القانون الجنائي.
نعم، هذا إجرام مكتمل الأركان دفع الكثير والكثيرات من الشباب لإنهاء حياتهم كنتيجة مباشرة للإحساس بالعجز والرفض الذاتي وجحيم الإدانة للحب الذي يعرفونه. فمتى يتوقف هذا العبث؟!
*جميع أسماء المتطوعين بالتحقيق الاستقصائي النوعي هيّ أسماء مستعارة وذلك إمتثالاً لحماية خصوصيتهمن وحفاظاً على أمانهمن الشخصي.